ارتبطت هجرة الجزائريين إلى فرنسا بالدخول الفرنسي إلى البلاد في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر. حيث كانت فرنسا تعتبر الجزائر مقاطعة فرنسية، فكان السّفر إليها متاحًا، عكس ما هو عليه الوضع اليوم. إذ يكفي إلقاء نظرة على ضخامة طوابير طالبي التأشيرة من الجزائريين أمام السفارة الفرنسية، التي تعدّ مدينة في حدّ ذاتها داخل العاصمة الجزائرية، لندرك الصعوبة التي باتت تصاحب دخول الجزائري إلى التراب الفرنسي، رغم "التسهيلات" الممنوحة في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند.
باتت الجالية الجزائرية في فرنسا قوة انتخابية وثقافية مزعجة لنشطاء اليمين
بين الهجرة الشرعية قبل وبعد الاستقلال الوطني، 1962، وغير الشرعية في السنوات العشر الأخيرة، إذ بات ركوب البحر في غفلة من الأسرة والحكومة معًا سلوكًا يوميًا في الجزائر، يقيم حوالي ستة ملايين جزائري في فرنسا، من بينهم نصف مليون في العاصمة باريس. وقد باتوا يشكّلون، بفعل تحكمهم في اللغة الفرنسية ومعرفتهم التاريخية بالمخيال الفرنسي، قوة انتخابية وثقافية مزعجة لنشطاء اليمين.
اقرأ/ي أيضًا: المهاجرون الأفارقة في الجزائر.. شقاء الأحلام
يطغى على حديث الشابّ الجزائري حلمُه بالهجرة إلى فرنسا، وعلى سلوكه السعيُ إلى توفير المال والفرصة لذلك. ويطغى عليه أيضًا، إذا حدث أن عاد في عطلة، أو تواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، سردُ مغامراته وتأمّلاته في بيئة يصفها بالحلم، فيلقى حديثه الاهتمام ويجلب الانبهار، ناقلًا ذلك الاهتمام والانبهار إلى شخصه، فنظرة الشارع الجزائري إلى الشاب المهاجر تقوم على إعجاب واحترام خاصّين.
يقول المدوّن والناشط مسعود قايدي لـ"الترا صوت" إنه من مظاهر فشل حكومات الاستقلال الوطني، خاصّة تلك التي جاءت بعد العقدين الأوّلين منه، عجزها عن توفير شروط العيش الكريم لشبابها، بما حوّل طموحهم من بلادهم إلى بلاد مستعمر الأمس، "لماذا خسرنا مليونًا ونصف المليون من الشهداء، ما دمنا لم نغيّر مجرى الحلم؟". ويشير مسعود قايدي إلى مفارقة قال إنها جديرة بالانتباه، هي "أن سبب هجرة الجزائري إلى فرنسا قبل الاستقلال وبعده يتعلّق برغبته في تحسين ظروف عيشه".
وبعيدًا عن المعطيات السّياسية، يقول مسعود قايدي إنه علينا أن نعترف بعبقرية خاصّة يتحلّى بها الشابّ الجزائري المهاجر إلى فرنسا، "إذ ليس سهلًا أن تثبت وجودك وتحسّن وضعك في بلد متفوّق حضاريًا وثقافيًا، وأنت متسرّب من المدرسة مبكرًا". يتساءل: "لماذا لم يستثمر الروائيون والسينمائيون والمسرحيون في هذه التجارب الإنسانية؟".
في شاطئ مدينة بومرداس، 60 كيلومترًا غرب الجزائر العاصمة، لفت انتباه "الترا صوت" تحلّق نخبة من الشباب ليلًا على شابّ يحدّثهم بحرارة عن تأمّلاته في الإنسان والمكان الفرنسسين، وهم يستمعون إليه كأنّ على رؤوسهم الطير. "ربّونا هنا على أن نلجأ إلى الكذب والقسم بالله والتقنّع بالدّين لقضاء حاجاتنا، كأن نتجاوز طابورًا أو نحصل على قرض من أحدهم. وقد كان ترك ذلك والاستعانة بالصدق والوضوح والشفافية من الدروس الأولى، التي تعلّمتها عند وصولي إلى باريس، إذ يُنظر إليك، إذا كذبت أو أدليت بمعلومات خاطئة، على أنك تهدّد النزاهة العامّة، ويمكن أن تهدّد المصلحة العامّة".
يتفوّق استهجان الوالدين هناك، يواصل نصر الدّين المتخرّج من كلية العلوم الزّراعية، لإخفاء طفلهما لخطأ اقترفه على استهجانهما للخطأ نفسه، لذلك فهو يكبر على الشفافية منذ صغره. ويتفوّق حرصهما على أن يبعداه عن المشاهد والكلمات والتصرّفات العنيفة، على أيّ أمر آخر. هنا، كان أبي يصرّ، وأنا صغير، على أن أحضر طقس ذبح أضحية العيد، حتى أكون خليفته في ذبحها عندما أكبر! ويضعني على صدره، وهو يشاهد فيلما هوليوديًا مدججًا بالسلاح والرّصاص والمعارك، وتكون يده جاهزة لصفعي، ولسانه جاهزًا لشتمي وتشبيهي بالحيوان، بمجرّد أن أتصرّف تصرّفًا تمليه علي طفولتي!
شاب جزائري: الأسابيع الثلاثة التي عشتها لحد الآن في فرنسا، أكثر غنى نفسيًا وفكريًا من سنوات عمري في بلدي
كان الفتى العائد لقضاء عطلته في "البلاد" يتحدّث بانسياب كبير، وقد ضاعف من ذلك حين سأله "الترا صوت" عن تعامله مع النساء. يقول: "المرأة هناك مستقلّة ماديًا وفكريًا، وتقدّس حريتها الشخصية، وليست محتاجة إلى أن تتجنّب الضغط الاجتماعي بالزواج، فتقبل بأي عرض. إنها لا تحكّم غير إعجابها بك لتكون معك، وهو ما جعل متعتي مضاعفة في هذا الباب".
اقرأ/ي أيضًا: "نكران الثقافات".. عن الهجرة والاندماج
في مدينة ندرومة على الحدود الجزائرية المغربية، يقول محمد عمارة (1992) إن حلم الهجرة إلى فرنسا راوده منذ ترك الدراسة واصطدم بواقع أحسّ أنه لا ينتمي إليه. "تحصّلت على تأشيرة دخول إلى إسبانيا، ومنها دخلت التراب الفرنسي". سأله "الترا صوت" عن انطباعه وهو يركب الباخرة، فقال: "مفهوم الوطن عند جيلي يختلف عنه عند الجيل القديم. هو يفهمه ترابًا وحدودًا، وأنا أفهمه ثقافة وتاريخًا، وسأحمل معي وطني بهذا المفهوم أينما ذهبت". يضيف: "لن أتنكّر لجزائريتي حين أسأل عن هويتي. لكن على الجيل القديم والحاكم أن يدرك أنه ليس في مستوى جزائريته لأنه أرغمني على الهجرة".
"أنا شغوف بالمسرح ممارسة ومشاهدة. ولقد أتيح لي أن أشاهد عددًا من المسرحيات خلال أسبوع واحد، أكثر ممّا أتيح لي أن أشاهده في حياتي كلها في الجزائر، وأتيح لي أن أفعل ما أشاء، من غير مصادرة لحريتي الشخصية، بما أعطاني إحساسًا بأن الأسابيع الثلاثة التي عشتها لحد الآن في فرنسا، أكثر غنى نفسيًا وفكريًا من سنوات عمري السّابقة". يختم: "علينا أن نؤمن عميقًا بحريتنا الشخصية، حتى نصبح جديرين بإنسانيتنا، فلا فرق بين أن تكون عبدًا لشخص، مثلما كان في السّابق، وأن تكون عبدًا لواقع يراك مجرّد رقم صغير داخله".
اقرأ/ي أيضًا: