03-أكتوبر-2017

أحمد صالح بارة/ الجزائر

معظم الأماكن في قريتي اليوم، تحمل أسماء أماكن تركها أجدادي الهلاليون في شبه الجزيرة العربية. لقد غيّروا الأماكن ولم يغيّروا الأسماء، أي أنهم انخرطوا في فضاءات جديدة، بذاكرات قديمة. والنتيجة أنني ورثت ذاكرة معلقة، حتى لا أقول إنها مشوّهة.

وجدت نفسي أنا الحفيد في القرن الواحد والعشرين، مبرمجًا على الحنين إلى حضرموت، وأنا مقيم في الجزائر

لقد وجدت نفسي أنا الحفيد في القرن الواحد والعشرين، مبرمجًا على الحنين إلى حضرموت، وأنا مقيم في الجزائر. أملك بحرًا وصحراء، لكنني لست مسكونًا إلا بالرّمل، وعلاقتي بالماء مبنية على التوجس من الآخر، فالبحر في مخيالي يعني الآخر الصليبي، وهذا واقع أرفضه، ورفضي هذا قادني بالضرورة إلى الانفتاح على بعديَّ الأمازيغي والمتوسّطي المطموسين.

اقرأ/ي أيضًا: الهوية الجزائرية.. من الاحتلال إلى الإهمال

حين نتحدث باعتبارنا كتّابًا عن هذه الأبعاد والخلفيات، فإن الحقل الذي يتجلى فيه الأمر هو اللغة. بالتالي فإن رهاني بصفتي كاتبًا جزائريًا مغاربيًا متوسطيًا أفريقيًا أمازيغيًا عربيًا مسلمًا، هو أن أنحاز في متوني إلى لغتي العربية المغاربية، التي شكّلتها كل هذه الأبعاد المتراكمة. في مقابل لغة مشرقية لها سياقاتها التي شكلتها، وإنه من التعسف أن يفْرَضَ عليّ هذا التناول المشرقي في اللغة باسم الدين أو القومية العربية.

لقد آن الأوان، في ظلّ التحولات الجديدة، أن يتخلص الأشقاء في المشرق من تعسفاتهم القومية، ونتخلص نحن المغاربة من عقد النقص، ونفتح أدبنا العربي على ثراءاته. إذ ينبغي الإيمان بأن اختلاف الإحساس ينعكس على اللغة، فالحاصل اليوم أن المنظومة المشرقية لا تتبنى من المغاربيين إلا الكتاب المتمشرقين.

حين تختار أن تكون مبرمجًا على المستقبل، إذ لا يمكنك أن تذهب إلى زمن لست مبرمجًا عليه، فستجد نفسك بالضرورة مطالبًا بأن تصحح الوضعيات الخاطئة لأجدادك في الماضي، وإلا ستدخل الغد مهدّدا بفخاخ الأمس.

لم أستحضر أجدادي في حاضري ليكونوا دليلي، كما تفعل السّلفيتان الدينية والقومية، بل لأكون دليلهم في ماضيهم، وأزيل فخاخ الأخطاء والتعسفات التي وقعوا فيها، وأورثوني إياها، وأنا أعانيها اليوم، ولا أريد أن أعانيها وأولادي غدًا.

لقد تعلّمت منذ الصغر، من خلال انتقال أسرتي إلى أكثر من بيت جديد، أن أتخلى عن الأثاث فاقد الصّلاحية، وإن حدث أن احتفظت ببعضه، فمن باب الذاكرة لا غير. بالتالي فإن مكانه في بيتي الجديد محدّد سلفًا، هو الزّوايا لا الصّدارة. كما تعلمت أن أنقي دوريًا الأثاث، الذي لم يفقد صلاحيته من غبار الأيام. العودة لا تعني النكوص، فهي حين تكون مؤطرة بوعي حاد بالكتابة وعلاقتها بالحياة، تثمر فينا كثيرًا من المعنى، الذي يعطي ما نكتب أبعاده الإنسانية. مثلًا حين أعود اليوم ـ على ضوء مداركي الحالية ـ إلى لحظة كنت أعتقد فيها جازمًا أن الكون هو ما بين الجبال التي كانت تحيط بقريتنا، وأنه أن ألامس السماء بقصبة فوق قمة الجبل، أستطيع أن أفهم لحظتي الحالية جيدًا.

كل عودة إلى الماضي لا تحقق التشبث بالحاضر، وهو يرغب في الذهاب إلى المستقبل لا خير فيها

كل عودة إلى الماضي لا تحقق التشبث بالحاضر، وهو يرغب في الذهاب إلى المستقبل لا خير فيها، وهذا ما نعانيه اليوم في الوطن العربي، العودة التي تعني التراجع لا المراجعة، إذ أننا بتنا نعيش ونفكر ونتصرف كأن العالم هو ما تضمّه حدودنا فقط، ولا وجود لأمم وحضارات أخرى. لقد بتنا نتعاطى مع شروق الشمس على أنه فعل مكرّر يقتضي أفعالًا مكرّرة، لا فعلًا جديدًا يقتضي أفعالًا جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: كونوا مثل الفرنسيين.. أو موتوا مثل البشر!

أشمئز عميقًا من اليتم، الذي بات يعانيه المكان الجزائري، الذي يشبه قارة. مكان يكتنز ذاكرة التاريخ وما قبله، ويتوفر على الفصول الأربعة في الموسم نفسه، لكنه لم يحضَ بما يجب أن يحظى به من اهتمام المسرح والسينما والتشكيل والأدب، وهنا لا بد من الاعتراف بمفارقة هي أن أجمل النصوص والأعمال الفنية التي دخل إليها المكان الجزائري أبدعها الأجانب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكتابة والمنفى.. تلك الهوية الرمادية

عن أزمة الهوية الوطنية