تشكّل القصبة النواة القديمة لمدينة الجزائر العاصمة. تمّ تشييدها في القرن العاشر في عهد الدّولة الزيرية، بروح جامعة بين المعمارين الإسلامي والأمازيغي، ثم تمّت توسعتها والإضافة على ما كان موجودًا منها خلال الفترة العثمانية، التي أنهاها الاحتلال الفرنسي عام 1830.
نظرًا لضيق أزقة وساحات قصبة الجزائر التاريخية، يُستعمل الحمار بدل الشاحنة لجمع القمامة وهو ما يثير استغراب السياح الأجانب
كانت القصبة بأزقتها الضيّقة التي لا يكفي بعضها إلا لمرور شخص واحد، وبيوتها المتراصّة المفتوحة على الدّاخل، انسجامًا مع ثقافة الحريم عند الجزائريين، واحدًا من أوكار ثورة التحرير في خمسينيات القرن العشرين. إذ كانت منطلقًا لأسطورة جميلة بوحيرد وياسف سعدي وعلي لابوانت. وقد اعتمدتها منظمة اليونيسكو عام 1992 ضمن قائمة التراث الإنساني.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا لو تكلمت قصبة الجزائر؟
خصوصية المكان القائمة على ضيق الأزقة والسّاحات والمعابر، جعلت من دخول شاحنات النظافة، كما هو معمول به في معظم المدن الجزائرية الأخرى، أمرًا صعبًا في بعض مفاصله ومستحيلًا في مفاصل أخرى، وهو ما دفع السّلطات المحلّية إلى الاستعانة بالحمير في نقل النفايات.
بات من المألوف لدى السكان المحلّيين، والسياح الأجانب، إذ تعدّ القصبة أكثر نقاط الجذب السّياحي في الجزائر العاصمة، أن يروا حميرًا في أزقتهم صعودًا وهبوطًا، وقد يجدون أنفسهم ملزمين بأن يلتصقوا بالجدار حتى يعبر "الدّاب" كما يسمّى محلّيًا. "من هنا، نوقف عملية نقل القمامة في الأوقات، التي نعلم أن الناس يخرجون فيها من بيوتهم أو يعودون إليها حتى لا نزعجهم ولا نعرقل سيرهم، إلى أقصى حد ممكن، مثل أوقات الالتحاق بالمدارس ومغادرتها"، يقول سليمان أحد أعوان الشركة المشرفة على النظافة في المدينة.
في البداية، يقول محدّث "ألترا صوت"، كان عدد رؤوس الحمير المستعملة في العملية لا يزيد عن العشرين، ثمّ راح يتزايد وعدد العمّال، مع تزايد كمّيات القمامة في السّنوات العشر الأخيرة، فتحسّن معيشة المواطن أدّت إلى تضاعف ما يرميه. يضيف سليمان: "نوشك على أن نصل إلى أربعين عاملًا و100 حمار".
اقرأ/ي أيضًا: في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة
يعتبر معظم هؤلاء العمّال أنفسهم محظوظين، بالمقارنة مع زملائهم، الذين يستعملون الشاحنات في الأماكن المنبسطة الأخرى من الجزائر. يقول العم مسعود: "نسق العمل هنا بطيء بالنظر إلى طبيعة المكان والوسيلة المستعملة، ممّا يعطيك فرصة للتنفس، ثمّ إن النفايات التي نحملها غير ثقيلة وغير مسبّبة للرّوائح الكريهة والمؤذية جدًا".
تعوّد سكان القصبة على تواجد الحمار كوسيلة لجمع القمامة لكنه لايزال يثير مشاكل لعجزه عن حمل بعض النفايات ولما يثيره من أصوات أيضًا
يقول العم مسعود إن هناك علاقة خاصّة نشأت بينه وبين الحمير التي تتبع له، "فأنا أعطيها أوامر تطيعها، كأن أطلب منها التحرّك أو التوقف أو السير يمينًا أو شمالًا، وقلّما ألجأ إلى نهرها أو استعمال العنف معها لتفعل ما أريده منها. يضحك: "إنها مخلوقات أليفة وذكية وخدومة وصبورة، إذ يحمل الواحد منها قنطارًا، ولا أفهم كيف يُجمع العالم على أن يشبّه الغبيّ بها!".
في سياق المقارنة، يواصل محدّثنا طرح الأسئلة: "من الغبي؟ الذي يحمل القمامة ليخلّص المكان والإنسان من منظرها وأثرها البشعين، أم ذاك الذي يرميها في غير المكان والزمان المخصّصين لذلك؟ إننا نعاني من هذا السلوك يا ولدي، فقد نصادف أكياسًا مرمية فوضويًا، بعد نصف ساعة من مرورنا!".
من جهته، يقول الشاب زكي، أحد المقيمين في القصبة، إن عمّال النظافة انتقائيون في حمل النفايات، "فهم لا يحملون إلا الخفيف منها، ويتركون الصّلبة، مثل الخشب والحديد والزجاج، ممّا خلق ركامًا منها انضاف إلى جملة الأشياء التي تشوّه القصبة. سألناه عن صورة الحمار لدى السكّان، فقال: "لقد بات أمرًا واقعًا تصالحنا مع وجوده، غير أننا ندعو إلى إيجاد حلّ لفضلاته هو نفسه، والتي عادة ما تبقى من غير تنظيف".
مثلما تحظى شاحنات النظافة بالاهتمام، يحظى حمير القصبة بمكان يقضون فيه ليلتهم، ويجدون فيه ما يكفيهم من العلف والماء، يسمّى "السّرايج" نسبة إلى السّرج، وهو مكان كان في العهد العثماني يستعمل إسطبلًا لسرج الخيول. يقول العم مسعود كما لو كان يتحدّث عن إنسان: "نطعم الجائع منها ونسقي العطشان ونداوي المريض ونصلح "البردعة"، التي توضع فوق ظهره حتى لا يتأذّى".
عكس سكّان الأزقّة البعيدة عن "فندق الحمير"، يعاني السكان القريبون من النهيق، الذي قد يرتفع في أيّ لحظة، فيوقظ النائم ويخيف الصغار. يقول الكاتب محمد حسين طلبي إنه دعا مرّة صديقه الكاتب والباحث سعيد بوطاجين لينزل ضيفًا عليه في بيته اللصيق بالمكان، "فلم يستطع أن ينام بسبب النهيق، وهو ما دفعه إلى أن يقضي ليله في القراءة، وجعله يقول ساخرًا إن الحمار هنا يشجّع على العلم".
اقرأ/ي أيضًا: