إذا زرت سكيكدة ولم تطأ قدماك بلدة سطورة بمينائها العريق الذي تعاقب عليه الفينيقيون والرومان، فكأنك لم تأت أصلًا إلى روسيكادا، إذ يبدو ذلك الحي بمنازله المتراصة من الأعلى نحو السفح المستوي مع البحر، نموذجًا شبيها بمدينة موناكو، رغم الفوارق العمرانية الهائلة.
يعرف كثيرون أن الإيطاليين هم أصحاب فكرة مطاعم التراتوريا المنتشرة بكثرة في إيطاليا، لكن لا أحد يعرف، أن لويزة ربما تكون أول امرأة جزائرية تدير مطعمًا يتخذ شكل المؤسسة العائلية
وإذا قدّر لك زيارة سطورة الشهيرة بمعامل بيع الثلج وصيد الأسماك دون أن تتفسح في كورنيشها الحجري الذي يخفي بين مخانقه شطآنًا فريدة، فكأنما ذهبت إلى مدينة بيزا دون أن ترى برجها المائل.
أما السياح الجزائريون والأجانب الراغبون في إسكات نباح الجوع فيقصدون عبر كورنيش مولو، مطعمًا يقع في الزاوية الفاصلة بين الجسر الروماني وجزيرة القردة، وهم لا يبلغون المكان طلبًا للأكل فحسب، بل لمجالسة عرّابته الروحية ماما لويزة التي حوّلته إلى محج عائلي خالص، محاطٍ بالدفء والمحبة والمشاركة.
ذلك أنها كما تقول لـ "الترا جزائر": "أقدم الطعام للزبائن في أحيان كثيرة من القدر الذي أطبخ فيه لعائلتي.
تربيت منذ الطفولة في محيط عائلي دافق بالمحبة، فوالدي رحمه الله كان بطلًا حقيقيًا علمني النظافة وإتقان العمل واحترام الآخرين، وأظن أن هذه الخلطة الإنسانية هي التوابل الحقيقية التي تجذب الناس، أكثر من رائحة بهارات الكسكس بالجمبري والميرو التي يتهافت عليها السياح".
قبل أن تستنج: "في واقع الحال، الطعام الطيب الذي نعده بحب وشغف كي نقدمه للناس هو وجبة نعرضها فوق مائدة المحبة، والأشياء التي نمنحها من القلب دائمًا ما تجد طريقها إلى القلب".
عروس ستورة
في كل صباح تنهض لويزة، 74 سنة، أم لأربعة ذكور وبنت، لترتب شؤون منزلها المتكون من بيت واحدة وغرفتين، واقعتين في المطعم الذي أوت إليه زوجة، منذ تاريخ زفافها نهايات العام 1971.
تلقي نظرة على البحر المقابل، قبل أن تجهز عدة اليوم، لكنها تتذكر أمرًا عجيبًا تصر أن تقوله لـ"الترا جزائر": "جئت هذا المكان عروسًا، زفني والدي لرجل لم أكن أعرفه، وسبحان الله منذ قدومي وترجلي بالفستان الأبيض على طول كورنيش سطورة، كان السياح يسارعون لالتقاط صور تلك العروس التي كنت، ثم ومنذ تلك اللحظة سقطت في غرام المكان الآسر، لذا لم يحدث وأن غادرته أبدًا منذ تلك اللحظة.
وأنا أخرج من بيتي العائلي وجهت لي أمي نصيحة ذهبية، قالت لي إن الزواج ليس هو الحياة، الحياة هي كل التضحيات التي ستقومين بها في محطتك الزوجية، وعليك أن تجابهي ذلك بمسؤولية وألاّ تعودي إلى البيت حزينة ".
تعدّ لويزة طلبياته من السمك الطازج في قائمة ليتكفل عامل بجلبها من ممون سمك شهير بكنية "لاسويس"، ثم تقوم بجرد قائمة الخضراوات، التي تشتريها يوميًا، حفاظًا على جودة الوجبة، فتشرح قائلة: "لا بد أن يأكل الزبون خضارًا طازجة، وأما البقوليات الأخرى مثل الأرز والسباغيتي فأقوم بتخزينها كي أكون مستعدة لزبائن قد يأتون على حين غرة. أسوأ شيء بالنسبة لي أن أواجه زبونا بكلمة (ماكانش)، لا بد أن يكون التوقع سليمًا وكل شيء يجب أن يكون متوفرًا".
المطعم المنزل
لا تفرق لويزة بين مسكنها ومطعمها، فهما واحد، وحتى طريقة بعثها للمشروع رفقة زوجها الذي كان تحفظ بعض الشيء على عملها في البدايات، أفلحت في إقناعه بمساعدته بدل أن يساعدها هو ذلك أنه كان سائق شاحنة وزن 20 طنًا ودائم التنقل بين الجزائر ودول الجوار تونس والمغرب. طلبت منه أن يمنحها مهلة لتثبت له أن العالم الخارجي الذي يبدو في المجتمعات الرجولية والذكورية وحشًا يمكن ترويضه.
وعلى هذا الأساس تقول ضاحكة لـ "الترا جزائر": "قلت له لا يمكن أن يشاركني طباخ في عملي، فهذا المطبخ هو مملكتي الوحيدة، الذي لا أقبل أن يشاركني فيه أحد".
وتردف: "لقد علمتني والدتي فن الطبخ، ومنحني والدي حرية مسؤولة جعلتني أسعى أن أكون شريفة في كل شيء، في الحياة والعمل. حينما وافق مع وقف التنفيذ مشترطًا فترة تجريب وافقت وبدأت العمل فورًا، وكان أول ما قمت به هو تعليق صورة زواجنا، لذا كان الزبائن الذي يأتون لدفع الحساب يدركون أنهم في مؤسسة عائلية، وطوال هذه السنوات لم يحدث مرة وأن وقع إشكال معاملة بيني وبين زوجي، أو بيننا وبين الزبائن".
إيمان خليف
يعرف الجميع أن الإيطاليين هم أصحاب فكرة مطاعم التراتوريا المنتشرة بكثرة في إيطاليا، وهي في الأصل مطاعم عائلية، لكن لا أحد يعرف، أن لويزة ربما تكون أول امرأة جزائرية تدير مطعمًا يتخذ شكل المؤسسة العائلية، ولم يكن الأمر سهلًا أبدًا، حيث تشير: " أقف على كل صغيرة وكبيرة، لقد أسست لنسق داخلي، سرعان ما انعكس صورة خارجية جاذبة للناس، فكنت أطبخ وأتبل المأكولات وأغسل الصحون، وبرغبة التحكم في المصاريف، اهتديت ليكون أبنائي الذكور هم عمالي الأوائل، الذين يتقاسمون المهام اليومية للشركة العائلية، ما بين تقديم الطعام وتنظيف الصحون أو الوقوف أمام المحسب، لذا يبدو لك تماما بأن بيتي هو مطعمي و مطعمي هو منزلي".
لا تلقي لويزة بالًا للمصاعب التي واجهتها، قبل سنوات خلت، مثل انعدام الماء، وتراكم الأوساخ في الكورنيش، واهتراء أعمدة الإنارة العمومية، فتحولت لامرأة نقابية، تطالب وتغالب من أجل ترقية بلدتها وكورنيشها الأزلي.
لكن وبحسب تقديرها للأوضاع فإن مسؤولتين من وزارة الداخلية جاءتا من أجل تناول كسكس بسمك الميرو، ووالية سكيكدة الحالية، حورية مداحي، بذلن جهودًا مشكورة لتغيير وجه سطورة منذ العام.
وبشيء من الفلسفة الحياتية تقول: "الحياة لا تخلو من المصاعب، لسبب بسيط هو أنها ليست الجنة، إنما معركة من الجهد والنضال والتضحيات والعمل لتحقيق الأهداف ضمن المبادئ والأخلاق، هذا ما يمكننا من الذهاب إلى الجنة في الحياة الأخرى حسب معتقدنا الديني. لذا فإن انتقادات الناس وكلامهم لا يعني شيئًا بل هو حافز إضافي، على حدّ قولها.
على هذا الأساس فإن أقرب مثال حي هو الملاكمة الفذة إيمان خليف، لقد كنت مقتنعة تمام الاقتناع أنها ستصبح بطلة أولمبية وتتوّج بالميدالية الذهبية، منذ الوهلة الأولى التي تعرضت فيها للتشويه والتحامل والإيذاء المعنوي".
مُحاربة مستقلة
تحوّل المطعم خلال الثمانينيات إلى مقصد يؤمه الأجانب العاملون في الجزائر، روس وإيطاليون وفرنسيون و أميركيون، بدليل أن شاطئًا يقع قرب ميرامار لايزال يحمل حتى اليوم مسمى شاطئ الروس، ذلك أنه لا مجرد مقصف للأكل والشرب فحسب، بل لكونه كان و لا يزال منفذًا ساعد هؤلاء الأغراب على التعرف على العائلة الجزائرية أو بعبارة أخرى، الجزائر العميقة التي تختلف عن كل "الكليشهات الثقافية" التي عرفتها البلاد خلال مرحلة الإرهاب خصوصًا.
إلى هنا، تقول محدثة "الترا جزائر": إنه خلال العشرية السوداء شهدت البلاد عزلة عن الخارج، لقد كانت الصورة قاتمة، و بينما كنت ذات مرة جالسة على الشرفة المطلة على البحر رأيت مركبًا شراعيًا عصريًا يعج بزهاء خمس وعشرين شخصًا أوروبيا، فاقتربت منهم و دعوتهم ضيوفًا في مطبخي، حاول مسؤول حرس البحرية منعي عن ذلك لأسباب متعلقة بالبروتكول الأمني الخاص بتلك البعثة الأجنبية، لكني أصريت على استقبالهم، و تم ذلك و أعددت لهم الطعام فأكلوا و شربوا، و لأني فعلت ذلك مجانًا لتقديم صورة إيجابية عن الجزائر التي تقاوم الموت، فقد أهدى أحدهم لابني ساعة فاخرة تعويضًا عن فاتورة الوجبة".
في واقع الحال قدمت لويزة نظرة ثقافية أخرى عن المرأة الجزائرية المستقلة غير الخاضعة، فالذين قصدوا المطعم دون تخطيط مسبق، سرعان ما سينقلون تلك الصورة من فم إلى أذن، ولذلك سيحافظ المطعم على استقبال الوفود الأجنبية، على مدار التسعينيات حتى وقتنا الراهن، وهم يفضلون في العادة تناول الأطباق اللذيذة بخاصة حساء السمك والرز بفواكه البحر، والسباغيتي بفواكه البحر، وهي الأكثر طلبًا، مع التمتع بإطلالة على البحر من موقع طبيعي فريد، وللتعرف أكثر على دفء عائلات المجتمعات الشرقية.
سفراء أجانب
قبل فترة زار 27 سفيرًا من دول شتى المنطقة، وكلهم طلبوا زيارة هذا المطعم الذي صارت صاحبته لويزة علامة مسجلة باسمه، وفي هذا الصدد توضح: " لديّ إحساس بأن صدقي في العمل جلب لي نتيجة فاخرة، أشعر في كثير من الأحيان أنهم يأتون من أجلي لا من أجل المطعم، ثمة تشارك عجيب بيننا، لذا يزورني الفنانون الجزائريون والوزراء والمسؤولون والمواطنون البسطاء والعائلات، وقبل فترة جاءني وفد من 27 ممثلا دبلوماسيًا وانصرفوا مغتبطين، وكان بين هؤلاء سفير فنزويلا الذي عاد في زيارة ثانية خارج العمل، وفي آخر مرة حل هنا مسؤولان من ميلانو الإيطالية و مارسيليا الفرنسية فتناولا العشاء، ثم تطوع أحدهما وغنى لنا أغنية لنعيش جوًا عائليًا ماتعًا و بهيجًا، كان بالنسبة لي الصورة المثالية التي أحب أن تكون عليها سطورة بخاصة، و الجزائر التي تعرف تقاسم طعام المحبة مع الآخرين، فخسن الاستقبال عملة سياحية لا ثمن لها على الإطلاق".
وكما لو أنها تتذكر أمرًا بالغًا تعقب: " لقد عاد سفير فنزويلا وأعترف لي في جلسة عشاء وحديث سمر بأن هذا المطعم الذي قرر أن يعود إليه، قدم له صورة حقيقية غير مرئية عن الجزائر، فهم يتحدثون عن المرأة المضطهدة والمجتمعات الرجعية ثم عندما يأتون إلى هنا، تتكسر معتقداتهم الوهمية، وهم يرون امرأة حرة مستقلة تدير ملكية خاصة، من حر أموالها لتعيل نفسها وأفراد عائلتها من عمل يدها، ثم تتعايش بمحبة واحترام مع الزبائن القادمين في الأغلب من الجزائر العميقة، دون أدنى خلفية جنسية أو دينية".
وتختم هي كما لو أنها حققت نصرًا مؤزرًا: " عندما قال ذلك تذكرت مجموعة اليخت التي استقبلتها خلال بدايات العشرية السوداء، وتحديدًا العام 1992، لقد أردت أن أشعل شمعة في قلب الظلام الذي جثم على البلاد خلال تلك السنوات العصيبة، وها هي تلك الصورة البيضاء تعود إليّ مثل قوس مرتد من شخصية دبلوماسية أجنبية" - ويؤكد هذا - كما تضيف " إيماني الراسخ بالله الذي يأمرنا أن نعطي بلا تردد لنتلقى بلا حسبان".
فإلى يومنا هذا، وأنا في سن الرابعة والسبعين عامًا، لا أتذكر أني أخذت يوم راحة، أو سافرت خارج مطبخي، كما أني لا أنام غير أربع ساعات في اليوم والليلة، كل ذلك كي أجعل من شعار مطعمي واقعًا حقيقيًا".
تحوّل المطعم خلال الثمانينيات إلى مقصد يؤمه الأجانب العاملون في الجزائر، روس وإيطاليون وفرنسيون و أميركيون
وشعار المطعم الذي يملك عبر صفحته الفيسوكية قرابة ربع مليون متابع هو: "الحلال يُعْوِجُ الظَهر، لكنه لا يُحْنِي الرأس ".