الداخل إلى بلدة كريشتل الواقعة على بعد 34 كلم شرق وهران، غربي الجزائر، يدرك للوهلة الأولى، أنه في مكان عريق، فالبيوت القديمة المتدرجة على شكل هلالي من القمة صوب المرسى تذكّرك بمدن ساحل أمالفي الواقعة جنوبي إيطاليا المشيدة في القرون الوسطى.
تقنية صيد الأسماك لبحارة كريشتل التي يرجعها البعض للفينيقيين، لا تُعرف سوى في مالقا بإسبانيا وطنجة شمال المغرب وفي سواحل الأطلنطي البرتغالية
بعض الدور تفتح نوافذها على البحر الرابض إلى الأسفل، لترى بجلاء الميناء القديم حيث تتهادى قوارب هرمة ومعمرة، فيما تترامى فوق الرصيف شباك عملاقة لا ترى في أي مرسى آخر، ذلك أنها مخصّصة لطريقة صيد نادرة تسمى " لا مادرابا" التي اشتقت من الكلمة العربية "المضربة"، وهي الشبكة العملاقة المعدة لصيد التونة، والتي يسميها الفرنسيون " لا مادراغ"، والتي تعني أيضًا الشرك أو المصيّدة.
الناجون من الإبادة
تقول روايات متعددة بأن هذه البلدة تدين بوجودها للماء الذي كان سببًا في إنشائها منذ قرون عدة، فهي في الأصل كرش التل أو قنص التل، ومن تلك الكلمات نحت الإسبان الذين دخلوا في حروب سيطرة على السواحل الجزائرية بعد سقوط غرناطة، العام 1492، مسميات كريستيلا و كناستيلا، ليستقر اللفظ على كريشتل.
فالقاضي عبد القادر المشرفي نسبها العام 1764 إلى اسم سلفهم كرشتل بن محمد الراجع نسبه لقبيلة مغراوة إحدى فروع قبائل زناتة، لكن الثابت هو أن الاستيطان بها قديم، وعائد إلى القرن الخامس عشر.
في العام 1558 نشبت معركة مزغران العظيمة بين الجزائريين والإسبان قرب مستغانم، ويومها كبّد العثمانيون المتحالفون مع السكان المحليين وكانوا عربًا وبربرًا، بقيادة الشاعر لخضر بن خلوف هزيمة نكراء للجيش الإسباني.
لم يجد الإسبان الذين فقدوا قرابة 12.000 جندي في مزغران غير ارتكاب مجازر شنعاء في حقّ السكان المتأصلين في مناطق القطاع الوهراني، وأسفر ذلك عن فرار عائلات من بطش القشتاليين ليستقر الناجون منهم في هذا الخليج المتواري عن الأنظار، الذي سيعود، منتصف القرن الثامن عشر بمسمى كريشتل.
نبع العنصر
يتوافد على بلدة كريشتل، ببلدية ودائرة قديل، الواقعة إلى أقصى يمين الطنف الوهراني باتجاه أرزيو، زوار من مناطق عدة ليس للاستجمام في شواطئها الواقعة في مهاوي جبلية تصلح للسباحة مثل شط عين الدفلة، أو للقفز والغطس مثل رأس الإبرة، فحسب، بل للاستمتاع بما يبدو سحريًا وغرائبيًا، فقد قال لي شيخ مثقف كان جالسًا على مصطبة حجرية في الشارع الرئيس: " هذه البلدة المخفية بين الجبل و البحر مرتبطة بأسطورة تأسيس تاريخية هي أنها أسست من قبل 11 عائلة، لكن الأسطورة الحقيقية هي في وسط البلدة القديمة أسفل السلالم الواقعة يمين مسجد أبي بكر الصديق ".
عندما تنزل السلالم ستعثر على مشهد خارق لا يتسنى لك رؤيته في أي مكان آخر، فساحة البلدة يتوسطها قنال تتدفق مياهه العذبة من نبع يسميه الناس هنا العنصر.
يمتد الحوض المستطيل على عدة أمتار وينتهي في الجهة اليمنى عند " قرابية" من ذلك الذي النوع يشيده الأتباع لأولياء الله الصالحين على شكل قاعدة مربعة ذات قبة، موشحة بكلمات وأدعية، فتشعر للوهلة الأولى أنك في حضرة مقدسة.
سوق في الماء
على الضفة ينتشر باعة الخضار المتنوعة من سلق وبصل وخس ولفت وجزر وطماطم وبصل وغيرها من المنتجات الموسمية، ولقربهم من القنال تراهم يسقون الماء بدلاء لغسل منتجاتهم المرصوفة للبيع، وهذا السوق تحديد مقصد للوهرانيين و الزوار لاقتناء خضار طبيعية تحول من الحقول المجاورة إلى الطاولات مباشرة، أو لتشحن لأسواق أخرى، في هذا الصدد يشير تاجر شاب لـ"الترا جزائر" و هو ينضح السلطة بمرش: "يفضل المتنزهون القدوم لكريشتل من أجل الخضار الطازجة والطبيعية والنقية لأنها مسقية من هذا النبع المقدس، و لملء التنكات بمائه العذب و الحلو، ثم إنها تأتي من المنتج للمستهلك أ و من (الطرحة للرحى) كما يقال، بلا سماسرة، ودون وسطاء، ثم إن للبلدة القديمة كما ترى سحر خاص يقدم لك مشهدًا ميكروسكوبيًا عن البندقية".
في واقع الحال تأتي مختلف الخضراوات من بساتين مملوكة لعائلات تستغل 41 هكتارًا على شكل جيوب تمتد ما بين 300 إلى 1000 متر، بعضها مشكلة على نمط الأدراج، وتسقى بنظام التناوب، وجودتها لا مراء فيها فمصدرها مياه نبعية صالحة للشرب، تأتي من الجبال لتصب في العنصر.
أمّا ما يقصده المتحدث الأربعيني عن المشهد التقريبي للبندقية، فهي طاولات الخضار المرصوفة على جنبات القنال، ودكاكين البقالة والسمك الواقعة على الحافة، أما المقهى فيمنحك مشهدًا بانوراميا وأنت ترشف قهوتك بسلام تحت ظلال الأشجار الوارفة، ومنتهى السكينة والدعة أن تشاهد عجائز وأطفال يتبردون بأقدامهم المتدلية من الرصيف في ماء الحوض هربًا من الحرارة الرصاصية السائدة في الأجوار.
السرباح المقدس
لاحقًا ستفهم سر النبع المقدس والعطر الصوفي المبثوث في الأرجاء من تلك القبة، وسر الانجذاب العميق للمكان، ففي الحقيقة لا يتقاسم الناس، هنا، الماء مع أقرانهم من البشر فقط، بل مع أسماك السرباح التي تعيش فيه منذ زمن طويل، وهي شبيهة بثعابين الوديان الحلوة المعروفة باسم الأنقليس.
يمكنك مشاهدة تلك الأسماك الجفولة بادية للعيان في حال ما ألقيت لها قطعًا من الكاشير أو الخبز، لتخرج من أجل التهامها في هدوء، قبل أن تعود لمهجعها كأن شيئًا لم يكن.
وهذا التجاور بين البشر والأسماك يترك في النفس أثرًا عميقًا بالسلام الذي يحوط بهذه البقعة. في هذا الصدد يقول شاب من القاطنة لـ "الترا جزائر": " لا أحد يتجرأ هنا على صيد وإيذاء هذه الأسماك التي تكتسي طابع القداسة هنا، بل بالعكس ثمة احترام كبير يكنه السكان لها منذ قرون، كما لو أنها كانت من أفراد القرية، فوجودها دليل على نقاوة المياه، حيث أنها تساهم في تطهيرها من الشوائب وتقدمه لنا صافيًا، لذلك فهو شروب لقدومه من الجبل، ثم يستعمله باعة الخضار في غسل سلعهم المعروضة على الضفة".
هندسة الزريبة
علاوة على خضار العنصر المشهورة تعد كريشتل بلدة منتجة للأسماك منذ الأزل، ففيها ميناءان واحد قديم وآخر جديد بمسمى الميناء الصغير، الذي استفاد منه 250 صيادًا منذ 2012، مشغلًا 1000 فرد، لكن صيد الأسماك هنا يحتكر بقصة أخرى ليس لها نظير في الجزائر، فبحارة كريشتل هم الوحيدون الذين يستعملون طريقة خاصة في الصيد تسمى "المضربة"، ما يفسر تراكم تلك الشباك العملاقة في الرصيف.
لا تشيع هذه الطريقة المبتكرة التي يرجعها البعض للفينيقيين سوى في مالقا بإسبانيا، وطنجة شمال المغرب وفي سواحل الأطلنطي البرتغالية، وهي ذات فعالية كبيرة في غنم سمك البونيط، المنتمي لعائلة التونة، أما انتشارها في كريشتل فراجع لمخالطة الإسبان، فهي في الأصل تقنية إسبانية مع أن أصل اللفظ عربي.
الرايس يوسف، هذا الرجل المتدحرج في عقد الستينيات، هو واحد من أقدم صيادي المنطقة، وله تجربة طويلة في فنون البحر، لذلك هو أفضل من يشرح لـ "الترا جزائر" هذه الطريقة المبتكرة، مستظلًا بجؤجؤ سفينة تحت الصيانة، حيث يقول مستعينًا بورقة وقلم: " نشرع شهر نيسان/أفريل في تحضير وخياطة الشباك العملاقة، لنبدأ موسم الصيد بدء من شهر أيار/ماي على أن ينتهي شهر تموز/جويلية. تتطلب العملية مشاركة 30 صيادًا بالإضافة إلى غطاس ويحتاج زرع الشبكة في البحر مواكبة قاربين لها.
وطبعا تشهد سواحل كريشتل هجرة لأسماك البونيط التي تجلبها التيارات خلال هذه الفترة، فنقوم نحن بزرع الشراك لنغلق عليها طريق العودة. الأمر أشبه بالفخ العملاق".
في واقع الجغرافيا ساعدت التضاريس قرية كريشتل لتكون مصيدًا هائلًا لسمك البونيط، فهي واقعة في شكل خليج يُمكن الواقف في"قمة الإبرة" أو " لابونتا دي روخا" من رؤية مناطق عيون الترك وكاب فالكون في الجهة المقابلة.
20 طنًا في رفعةواحدة
هذه الطريقة معقدة نوعًا ما إذ أن بناء الشبكة بفتحتها المسماة القُب أو الباب، ومرافعها وأروقتها التي تحمل مسمى الطريق "لافيتيرلا"، فيما يسمى الحوش أو فناؤها "الكوادرو"، يشبه المتاهة التي يلجها سمك البونيط دون أن يعلم ألاّ عودة له على الإطلاق. يضيف الرايس يوسف مبتسمًا: " لامادرابا مشتقة من كلمة لا مادراغا أو لا مادراغ، وهي صممت من طرف الإسبان على شكل زريبة عنز، حيث تنطق أحيانًا المزربة، نظرًا لاشتمالها على رواق دخول وفناء، لذا حينما نرى أن السمك قد ولج عبر الطريق الوهمي واستقر في الحوش نغلق عليه الفتحة، وحتما سيبقى في بطن الشبكة المغلقة من جميع الجهات عبر مكالب، لتبقى اللحظة النهائية هي رفع الشبكة كما لو أنها سلة ذات غلال بحر وفيرة".
وإلى هنا يضيف مرافقه " ذات مرة حصلنا على 20 طنا في رفعة واحدة" أما الرايس فيعقب: " أذكر أن أكبر حصة يومية لنا كانت بحصيلة قياسية بلغت 61 طنًا، وطبعا كان عرسًا احتفاليًا بسمك البونيط".
تقول روايات متعددة بأن هذه البلدة تدين بوجودها للماء الذي كان سببًا في إنشائها منذ قرون عدة
يغمغم ويعدل طاقيته قبل أن يضيف: "ساعات تجيب وساعات تخيب كما يقول المثل فذات مرة لم تتجاوز حصتنا الطن الواحد، وهذا واحد من أسرار أرزاق الله وحمائل البحر. وخلق الإنسان في كبد ليعافر، وحلاوة البركة في الحركة، فنغتبط للكثير والبركة في القليل".