05-فبراير-2018

إسماعيل فريحي (فيسبوك)

ظلّت معاناة الرّاقص الجزائري مغيّبة، مثل نهر أعمى يسري تحت الأرض، حتى أقدم تسعة راقصين تابعين لـ"الباليه الوطني"، الذي تأسس في ستينات القرن العشرين، على رفض العودة من كندا بعد أن شاركوا في تظاهرة رسمية هناك عام 2010، كاشفين ما يعانونه في الجزائر بصفتهم فنانين يطمحون إلى إثبات ذواتهم.

الراقص الجزائري إسماعيل فريحي: من يختار هذا الفن يجد نفسه في حقل من الألغام فإما أن ينسحب مبكّرًا أو أن يتحدى وهذا ما اخترته

هنا، يطرح هذا السؤال نفسه: إذا كان الشابّ الراقص الذي استطاع أن يفتكّ مكانًا له في "الباليه الوطني"، أعلى هيئة مهتمّة بفنّ الرّقص في البلاد، يشكو قلّة الفرص والحظوظ ويواجه مشاكل ومعوقات وعراقيل، فكيف بشابّ في المدن والتجمّعات البعيدة عن العاصمة، حيث تعدّ المقبرة والمسجد المرفقين العموميين الوحيدين المتوفرين في الكثير منها؟

يقول الرّاقص إسماعيل فريحي (1996) إن الشابّ الجزائري الذي يختار هذا الفنّ يجد نفسه منذ البداية في حقل من الألغام، التي تجعله إما ينسحب مبكّرًا، وإمّا يبقى يراوح مكانه إذا لم يهاجر أو يحصل على فرصة كبيرة، "ذلك أنّ البلاد على اتساعها لا تتوفّر على الفضاءات والهيئات التي تعتني بالرّقص وبالمنخرطين فيه، وما يوجد منها لا يخضع لرؤية حقيقية تجعل منه منصة انطلاق لمئات المواهب التي تجد هوّة عميقة بين ما تقرأه وتشاهده في المواقع والقنوات العالمية المختلفة وواقعها الجزائري". يشرح فكرته: "المهتمّ بالرّقص المعاصر في الجزائر يتفوّق الجانب النظري لديه، بالنظر إلى قراءاته ومشاهداته لما يقع في الخارج، أكثر من الجانب التّطبيقي بالنظر إلى غياب الإمكانيات".

اقرأ/ أيضًا: حسن رابح.. الرقص في الريح

سأله "الترا صوت" عن مدى مساهمة غياب تقبّل المجتمع لهذا الفنّ في الوصول إلى هذا الواقع، فقال إن هناك تحوّلات كثيرة جعلت الرقص فنًّا عاديًا في المجتمع الجزائري، "قد يكون التضييق خاصًّا بمناطق معيّنة تعرف بكونها محافظة، لكن في العموم استطاع الشابّ الجزائري أن يفرض نفسه على أسرته ومحيطه في مجالات اللباس والهوايات الفنّية". يضيف: "ما يثير الدّهشة أن هذا الانفتاح الاجتماعي على الفنون العصرية منها الرّقص لم يواكبها اهتمام من طرف الهيئات الثقافية الوصيّة".

يقول إسماعيل فريحي إنه اكتسب ميوله إلى الرقص المعاصر من ابن عمّته الكوريغرافي وحيد عبد الكريم الأحمر، "كنت صغيرًا في بلدة صغيرة في ولاية سيدي بلعبّاس، 500 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة، وكنت مثل الجميع خارجًا من متاهة العنف والإرهاب، فكانت رغبتي في الرّقص عميقة كنوع من التطهر من تلك المرحلة البائسة، حيث كان مكوثي في البيت من باب الخوف علي، أكثر من خروجي إلى الفضاءات التي خارجه".

الراقص الجزائري إسماعيل فريحي: في مسعى الكفاح من أجل الفنّ الذي أحبه وتطوير قدراتي فيه، اشتغلت مهنًا موسمية عديدة وبعت كذلك بعض متاعي

هاجر قريب محدّث "الترا صوت" إلى الإكوادور، "فبقيت أعزلًا من الدّعم والتّشجيع، ووجدت نفسي مخيّرًا بين أن أتخلّى عن طموحاتي الفنّية وبين أن أكافح من أجلها، فاخترت الثّانية بجمع نخبة من الأصدقاء وتأسيس نادٍ صغير كنا نلتقي فيه لنشاهد الفيديوهات في المواقع الالكترونية ونقرأ ما يكتب عن الرقص المعاصر باللغة الإنجليزية، التي تطوّرنا فيها من أجل فنّنا، أكثر من الممارسة، لأنّ نادينا كان بلا مقرّ أصلًا، وكنا كلّما حصلنا على مقرّ إمّا يُنتزع منّا وإمّا تفرض علينا فيه قلّة الحركة بدعوى الحفاظ على الهدوء! وهل يستطيع الرّاقص أن يمارس فنّه ويتطوّر فيه بلا حركة؟". يضحك بمرارة: "لقد دعانا أحدهم تثبيطًا لعزائمنا إلى تعويض الرّقص باليوغا".

اقرأ/ أيضًا: منى برنس...رقص للحياة في بلد "خربانة"

مع بداية عام 2009، شرع إسماعيل فريحي في المشاركة في المسابقات والمهرجانات الوطنية المتخصّصة في الرّقص المعاصر بأنواعه المختلفة، فكانت البداية في مهرجان سيّدي بلعبّاس، "حيث نافست راقصين محترفين قدموا من مدن كبيرة وفّرت لهم إمكانيات جعلتهم يقطعون أشواطًا مهمّة في فنّهم، في الوقت الذي كنت أبحث عن مكان أتدرّب فيه. وما أعجبني في نفسي أن ذلك الفارق في الإمكانيات المتاحة خلق في داخلي حماسًا إضافيًا لمواصلة طريقي المحفوف بالأشواك، فتوّجت في مهرجان مستغانم رفقة صديق لي من النّادي نفسه، ثمّ تحصّلت بعدها بعام على اللّقب في مهرجان مدينة خنشلة".

في العادة، يقول محدّث "الترا صوت"، لا تتحمّل المهرجانات المتخصّصة في الرّقص المعاصر تكاليف النّقل ولا تمنح مصاريف الجيب، فتجدني أشرع في تدبّرها بمجرّد أن تصلني دعوة المشاركة، بأن أنخرط في عمل موسمي، كأن أحمّل موادّ البناء أو أحرس في ورشة أو أعمل نادلًا في مقهى أو قابضًا في حافلة أو مشرفًا على فضاء للإنترنت أو بائعًا لسلعة معيّنة، وكلّما شعرت بالحرج من ذلك قلت لنفسي إنها في مسعى الكفاح من أجل الفنّ الذي تحبّه.

"إذا حدث أن كان موعد المهرجان وشيكًا بما لا يسمح لي بأن أتدبّر المال من خلال أحد الأعمال السّابقة، فإنّني أضطرّ إلى بيع غرض من أغراضي، فأنا أشتري هاتفًا ذكيًا رفيعًا حين يكون المال متاحًا، لأنّني أعلم حاجتي إلى ثمنه في أيّة لحظة، وإن حدث أن وجدت نفسي بلا مورد، فإنّني أحمل حقيبة ظهري وأنخرط في الطّريق. لقد اكتسبت صداقات كثيرة مع سائقي السيّارات والشّاحنات التي نقلتني".

يتواجد إسماعيل فريحي هذه الأيّام في تونس، إمّا للمنافسة أو لعضوية لجان التّحكيم في العديد من مهرجانات الرّقص المعاصر، مثل مهرجان المرناقية وسوسة وقابس وبنزرت والكاف. كما شارك في مسرحية راقصة هي "رصيف السّحب" للفنّان وليد القصوري، إلى جانب فنّانين عرب وأوروبيين. يقول في ختام حديثه معنا: "نتف الرّقص المعاصر ريشًا كثيرًا مني، لكنّه منحني كثيرًا من التّحليق".   

إسماعيل فريحي (فيسبوك)

اقرأ/ أيضًا:

الرقص الاعتقادي في مصر.. دروب الخلاص

المغاربة والرقص الشرقي.. إقبال واسع وتحفظات مكرورة