13-يناير-2021

احتفالات رأس السنة الأمازيغية بقرية آث منداس بولاية تيزي وزو (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

لطالما تشكّلت الهويّة الأمازيغية من زخم التنوّع التاريخي والثقافي الذي تزخر به؛ إذ تتزاوج فيها الحقائق التاريخية مع الخيال والأساطير، لتمنحنا ذلك الغنى والثراء الذي آلت إليه في الحاضر، كما كافح أصحاب هذه الهوّية  طويلًا عبر الزمن لتبقى حاضرة عند كل موسم، وفي كل مناسبة، حتى دخلت كلّ بيت جزائري حيثما كان ومهما كانت أصول ومعتقدات قاطنيه.

ما مدى توغل الأسطورة والحقيقة في مخيال المجتمع الجزائري؟ 

ترتبط المناسبات الاحتفالية والمظاهر الهوياتية تاريخيًّا ارتباطًا وثيقًا بالأساطير والحكايا، ويلعب المخيال المجتمعي لدى الشعوب عامة، والأمازيغيين بشكلٍ خاص، دورًا مهمًّا في صناعة حاضرهم وكتابة تاريخهم الذي يؤمنون به أشد الإيمان، كما أن الذاكرة الجماعية التي تصِلُ بين مجموعات وشعوب معينة، هي التي تؤثث بالضرورة مظاهر عيشها وعاداتها وتاريخها المشترك عبر العصور.

اقرأ/ي أيضًا: احتفالات ينّاير.. بين تحريم المداخلة والتشبث الشعبي

يَذكُر أرنولد جوزيف توينبي في كتابه "دراسة للتاريخ"  في هذا السياق، أن التاريخ وليدُ الأسطورةِ، مثله مثل الدراما والرواية، وكما يحدث في قصص الأطفال الخيالية وأحلام البالغين المتقدمة، فإن الخطَّ الفاصلَ بين الحقيقيِّ والمُتَخَيَّلِ في التَّاريخِ غير موجود. من هنا، تُشابِهُ جميع كتب التاريخ الإلياذة، لأنها لا تستطيع أبدًا أن تتخلص من الخيال، فمجرد اختيار الوقائع وترتيبها وعرضها هو ضربٌ من تقنيات ميدان الخيال.

لوهلة، ذكرني هذا المقطع الوارد سلفًا بأسطورة تمثال لوبا كابيتولينا الإيطالي الذي تعود قصته إلى أساطير الميثولوجيا الرومانية، إذ يعتبر معلما تاريخيًا ومزارًا مهمًا في إيطاليا وله نسخ عدة في السويد وليبيا وإسبانيا، إضافة إلى تمثال روكي بالباو، الذي يمثّل شخصية ملاكم خيالية محضة في السينما، ومع ذلك صار أيقونة تاريخية ورمزًا الكفاح والنجاح في فيلادلفيا الأمريكية.

إذن، ما مدى توغل الأسطورة والحقيقة في مخيال المجتمع الجزائري؟ وكيف يمكن للهوية التي تصنعها احتفاليات موسمية كاحتفالات يناير، وأساطير تناقلتها الأجيال، أن تصنع ذلك المشهد المتراص رغم كل التصدعات التي تزيد من اتساعها خلافات المعتقد الديني والانتماء الهوياتي؟

بين الأدلجة والمخيال الشعبي

عن الجدل الذي حصل بسبب نصب تمثال الملك الأمازيغي شيشنق في ولاية تيزي وزو، قال الباحث في علم الاجتماع عمار بن طوبال في تدوينة فيسبوكية، إنه لا يوجد أي دليل  تاريخي ذو مصداقية على وجود هذا الملك الأمازيغي، والتي تتشكل حوله سرديات أسطورية منذ ثمانينيات القرن الماضي.

وأضاف المتحدّث أن الجدل التاريخي يهمّ المؤرخين، وهم عمومًا غير معنيين به كموضوع علمي في البحث التاريخي، وذلك لافتقادهم لأيّ دليل ذو حجية قابلة للنقاش، إذن فالاهتمام بتمزيغ شيشناق المصري، حسبه، هو أمر أيديولوجي محض.

أشار بن طوبال إلى أن الأمر يختلف على المستوى الشعبي  تمامًا، لأن الأسطورة هي ما تؤمن به الجماعة بعيدًا عن أي حقيقة تاريخية، والمخيال الجمعي حسبه لا يؤمن بالتاريخ ولا يعترف بحقائقه بمقدار ما يحيط "حقائقه/أساطيره الخاصّة"، بعصمة تقف في وجه أيّة سردية بديلة مهما امتلكت من حجية وقوة تماسك، على حدّ تعبيره.

هنا، يؤكّد الباحث أنّهم  بقرار تنصيب تمثال شيشنق بهيئته الفرعونية تلك وسط مدينة تيزي وزو، استجابوا لأسطورة شيشنق في المخيال الجمعي، ولم يكن عملهم تأكيدًا لأيّة حقيقة تاريخية، لأنهم غير معنيين بها أصلًا.

لِمَ نحتفل بيناير؟

من منطلق الأسطورة والتاريخ، تحلّق فكرة احتفالات يناير، أو رأس السنة الأمازيغية، حيث تحكي لنا العجائز ذوات الأوشام المحفورة على الجبين والذقن، وحفيداتٌ يحفظن عن ظهر قلب تلك الحكايات التي حفظنها في ليالي الشتاء الباردة أمام كانون (مدفأة) الأمهات خلال تجديل خصلات شعورهن، أسطورة يناير التي نجدها في عدّة مناطق من الجزائر وليس فقط في جبال جرجرة والأوراس، وتتفنّن كل منهن في بعث الدهشة حول ينار والعجوز والماعز.

ينّار، أو يناير، يقابل شهر كانون الثاني/جانفي في التقويم الأمازيغي الذي اعتمد كتقويم فلاحي قبل التأريخ الميلادي بأكثر من 900 سنة، أي قبل بداية التقويم الغريغوري، ومن هنا أيضًا، تتعدد الروايات بين الواقع والخيال الذي غذته الأساطير المتعاقبة عن مظاهر غضب الطبيعة.

واقعُ التقلّب الجويّ والبرودة الشديدة التي تميز هذه الفترة من السنة بالتزامن مع تباشير الموسم الفلاحي، وأسطورةُ غضب "ينَّاير" ذي الثلاثين يومًا من عجوزٍ تحدّته وتحدت جبروته، وخرجت ترعى بأغنامها التي كانت تتضور جوعًا، فاستلف نكاية فيها يومًا من "فورار" الذي يليه، ليطيل فترات صقيعه ويجبرها على العودة إلى كوخها.

احتفالات عابرة للحدود

يُحتفى إذن بـ"غضب يناير" هذا بغية تلطيفه، وتخليدًا لذلك التحدي الأسطوري للعجوز وماعزها، طمعًا في خيراته من أمطار وثلوج ومواسم مثمرة، فيتقاسم الشّعب الجزائريّ في أغلب ربوع الوطن طقوس هذا الاحتفال الذي تتعدّد روايات احتفالياته.

وبين قصة انتصار الملك الأمازيغي شيشنق على رمسيس الثاني التي ما تزال مثيرةً للجدل بين التأريخ الأمازيغي ونظيره المصري، وبين المهللين والمخلّدين لهذا الانتصار والناكرين لذكراه، يُرَجَّحُ ويسودُ في المخيال الجمعي العام، معتقدُ الفرح ودين المُقاسمة والتزاور ومشاطرة الملذات والحبوب والغلة، طقوسٌ تُصاحب موسم الخيرات الفلاحي وتصطحب البشائر، فيُحتفى بالعام الجديد يوم الثاني عشر من يناير من كل سنة، في أقصى الغرب لدى بني سنوس بتلمسان وما جاورها، وفي الشرق لدى الشاوية وفي منطقة القبائل والهضاب، كما يكون مناسبةَ فرح في الجنوب الكبير أيضًا عند بني ميزاب وأبناء نايل وفي تمنراست وجانت، لكنه حاضرٌ أيضًا في قسنطينة وتبسة وغيرها شرقًا، وبسكرة إلى الجنوب الشرقي للبلاد، ومدن أخرى غربًا ووسطًا.

وإن غابت اللغة الأمازيغية، حضرت العادات المتقاربة المتوارثة، حيث تتجاوز الاحتفالات قالب الهويّة الواحدة، لتبلغ ذلك التعدد بين أمازيغ وعرب وبدو وحضر يروون عاداتهم وأساطيرهم، ويطهون الكسكس والشخشوخة وينثرون حبات القشقشة والحلوى على رؤوس بنيهم الصغار تبركا بالخير، ويصبح "راس العام عرب" الذي سُمّي على هذه الشاكلة ليفرّق عن العام الميلادي، مناسبةً للمّ شمل العوائل التي أنهكها التباعد وشغلتها الحياة.

في الواقع، تمتد هذه الاحتفالات بعيدًا، لتعبر الحدود نحو مناطق عيش الأمازيغ عبر العالم من سيوة في مصر، إلى المغرب وتونس وليبيا، مرورًا بجموع كبيرة من المغتربين في أوروبا والقارات الأخرى، وصولًا إلى جزر الكناري، أين يعيش أمازيغ مشتتون، وآخرون مجتمعون تحت راية الهوية الواحدة، منصهرين في بنيات مجتمعية متنوّعة غنية، تجمعهم عادات وتقاليد متقاربة جدًا ولغة تتعدّد لهجاتها مع اختلاف المناطق، حيث يصمد هؤلاء أمام تعاقبٍ طويلٍ ومرهقٍ لثقافات عدّة وتصنع منهم ذلك المشهد الشبيه بلوحات الطلاسم الأمازيغية التي تسحرنا بألوانها دون أن نستطيع فكّ شيفراتها المتداخلة.

صراع الهوية والمرجعية

يقول الكاتب جهاد زهري في حديث لـ"الترا جزائر" إن الهويّة لا تحددها العقيدة أو الأيديولوجية أيًا كان نوعها أو أصلها ومنشأها، وأن أكبر محدّد لهذه القضية هي الجغرافيا، وهو أوّل الأمر وأساسه حسب المتحدّث.

ويضيف الكاتب أنه استنادًا إلى ما ذكره، ننتمي كشعبٍ إلى الأرض الجزائريّة الأمازيغية، وأيّة فكرة من الأيديولوجبات الناشئة التي تختبئ تحت العديد من الأغطية البهيجة العاطفيّة رغم عفن الدّاخل، إلا إنّ الرائحة الزكية، ولا تخفى على من به بعض الوعي والعقل،  لا تخدم بالضرورة الحاضر ولا المستقبل، بل وبإمكانها أن تقف حائلًا بين الفرد والمجتمع وازدهارهما ورقيّهما.

يؤكّد جهاد زهري هنا، أن "المرجعيّة الإسلامية التي يتبعها بعض الذين لا هويّة لهم، إلا بعض التمزيقات الداخلية والرتق العديدة، لا تمنع الفرح بالانتماء التاريخي الفطري الذي جُبِلَ عليه الإنسان، ثم إنّه لا شرعيّة لهم، فبأيّ الحقوق يخرج علينا عند كل فرحة أحد الذين يعيشون بأجسادهم بيننا وعقولهم ضاربة في التاريخ القديم، تاريخ شعب آخر وقوم آخرين، لينكدوا علينا الفرحة إذا حلّت بخطاب جنائزي رجيم؟".

يصرّ جهاد زهري على الفخر بانتماءاته التاريخية التي تؤكّدها البيولوجيا وتحاليلها، وقال أنه على الراغب بالانتماء لشعب آخر أو إيديولوجية أخرى أن يحتفظ بها لنفسه، أو يحاول تكريسها في البلد الذي ينتمي إليه عقله.

سطوة الذاكرة الجماعية

من جهته، يقول الأكاديمي عبد الجليل بن سليم في تصريح لـ "الترا جزائر"، إن هناك الكثير من النظريات التي حلّلت الذاكرة  وكيفية تخزين الأحداث في الدماغ، وهناك رأي يشترك فيه كل من الفيلسوف ديفيد هيوم  (david hume) وإيميل دوركايم (Émile Durkheim)، حيث يطرحان فيه، حسب المتحدث، فكرة "الذاكرة الجماعية"، أي أن البشر يتذكّرون ما يجمعهم وما يشتركون فيه.

لكن الإشكالية التي تواجه هذه الذاكرة، حسب بن سليم، هي نظرة الأشخاص إلى الحدث الذي أصبح مع الوقت ذاكرة جماعية، لهذا نرى من يتهم المحتفلين بالهجرة النبوية مثلًا بنشر البدع، ويكفّر من يحتفل بالسنة الشمسية وبالسنة الأمازيغية، أو أيّ نوع من الذكريات الجماعية، "ما يبين أن الإشكالية هنا ليست فيما تحمله هذه الذكرى؛ ولكن في كيفية رؤية الناس لها".

في هذا السياق، يستشهد المتحدّث بعالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو((Abraham Maslow ، وهو عالم شهير قام ببحث علمي حلّل فيه الاحتياجات، وقال إن "أهم الاحتياجات التي يجب أن يغنمها الإنسان السّويّ هي تلبية حاجته للانتماء" ، أي أن البشر عمومًا يحبّون شعورهم بهذه الحاجة وبالقبول أيضًا، سواءً كان هذا الانتماء إلى مجموعة اجتماعية كبيرة أو صغيرة، أو إلى رقعة جغرافية معينة، على حدّ تعبيره.

فتاوى التحريم

يشير عبد الجليل بن سليم هنا، إلى المفكر الراحل المهدي المنجرة، الذي قال "إن قاعدة التخلف في العالم الإسلامي هي التخلف الثقافي الذي شوه فكرة الهوية والانتماء، فعندما نعيش تخلفًا اقتصاديًا أو علميًا أو حتى سياسيًا، فإننا ندخل حسب المتحدّث، دائرة الرفض الثقافي الذي يزيد من هذا التشويه، فتصبح الهوية في نظر الإنسان المتخلف مربوطة بالدينص.

لهذا، يستطرد بن سليم،  كثيرًا ما نسمع عندما ندخل في نقاش حول الهوية الأمازيغية عبارة "الحمد لله على نعمة الإسلام"، و كأن اكتساب هوية ما هو خروج عن الملة والدين.

يؤكّد محدثنا أن الخروج من دائرة التخلف يستوجب معرفة الهوية والتوغّل فيها، لأنها جزءٌ من الثقافة التي وجب تطويرها، ومن هذا المنطلق، لنفترض أنك ورثت بيتًا كبيرًا، ثم قمت بعملية ترميم أجريت خلالها تعديلات كثيرة على هذا البيت، هل سيبقى البيت نفسه أم أنه صار شيئا آخر؟

يُطرح هذا السؤال، حسب بن سليم، في علم النفس تحت مسمى مفارقة الهوية (Paradox of identity)، وتكون إجابته سهلة جدًا، وهي أن الهوية ليست ما اكتسب الإنسان، إنما هي توظيف ما يشكلها مع المتطلبات الموجودة حاليًا، وبالتالي فإن كل إنسانٍ لا يطور أو يوظف مكونات هويته في حاضره يدخل في دائرة الشذوذ الاجتماعي.

يختم المتحدّث فكرته، أن هذه الأرض أمازيغية، احتضنت الكثير من الشعوب التي شكلت بانتمائها هذا مزيجًا منوعًا اسمه الشعب الجزائري، وأيُّ تغليبٍ لأي طرف على طرف آخر، يعدّ من الناحية العلمية تهديدًا ضدّ الحاجة للانتماء، ما يؤدّي إلى التفكك المجتمعي، ويشجع العنصرية التي تغذي المفاضلة بين الأعراق.

يجزم محتفلون بهذه المناسبة، التي شُرّعت من طرف السلطة كعيد رسمي وعطلة مدفوعة الأجر، أن هذا التناغم الموجود في البنية المجتمعية الجزائرية، هو تلك الحجرة التي تقي بناءه من الانهيار بعد كل أزمة هوياتية وسياسة تلمّ به.

لا يسع المواطن البسيط سوى استغلال أيّة مناسبة احتفالية ليغنم لحظات الفرح دون إغفال الحاضر ومآسيه

لعل المواطن البسيط الآن، لا يسعه سوى استغلال أيّة مناسبة احتفالية ليغنم لحظات الفرح دون إغفال الحاضر ومآسيه، والوعي بالتصدّع الذي تسببه السياسة والاختلافات الأيديولوجية والدينية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

احتفالات رأس السنة الأمازيغية.. طقوس تاريخ معتّق

الجزائر تقر رأس السنة الأمازيغية عيدًا وطنيًا.. نهاية الجدل؟