كان لافتًا أن تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في حواره التلفزيوني الأخير أن الجزائر لا تريد اعتذارات فرنسية بشأن جرائم الاستعمار الفرنسي، لكنها تبحث بالأساس عن اعترافٍ رسميّ وكامل عن هذه الجرائم، وهذا يضع حدًا فاصلًا بين الاعتذار والاعتراف الرّسمي، في ظل التجاذبات التاريخية والسياسية بين الجزائر وباريس.
الاعتذار لم يعد مطلبًا مركزيًا بالنّسبة للجزائريين لكونه إجراءٌ سياسي لا تترتّب عنه تبعات أخرى
وبخصوص اعتراف فرنسا عن جرائمها في حقّ الجزائريين، تبنّى أغلب المسؤولون في الجزائر، الموقف نفسه خلال إحياء ذكرى مجازر الـ 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961، فالاعتذار بحسب متابعين للملف الجزائري-الفرنسي، فعلٌ رمزي لا غيرٌ، على اعتبار أن الاعتذار هو جزء من الحقيقة وليس الحقيقة كلّها حول الانتهاكات ضد الإنسان شهدتها الجزائر لمدّة 132 سنة من الاستعمار.
اقرأ/ي أيضًا: الاستعمار الفرنسي.. منظومة فكرية قائمة على الإبادة
نصف الحقيقة
استنادًا لذلك، فإن الاعتذار لم يعد مطلبًا مركزيًا بالنّسبة للجزائريين لكونه إجراءٌ سياسي لا تترتّب عنه تبعات أخرى، على خِلاف مطلب الاعتراف الذي تتمسّك به الجزائر، لأنه خطوة تقود الى تحمل فرنسا المسؤولية الكاملة عن ما ارتكبته ضد الجزائريين، وكذا ما يترتّب عن ذلك من تعويضات وخطوات لتحمل مسؤولياتها في بعض القضايا العالقة والمستمرة حتى الآن، وأبرزها مشكلة أثار التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية ومتطلبات تنظيف تلك المناطق التي لازالت تشكل خطورة على الإنسان والحيوان والنبات بسبب الإشعاعات النووية.
في هذا المنحى، يعتقد الحقوقي نور الدين بودهان، أنّ الاعتراف تنجرّ عنه الكثير من التبعات، موضحا لـ"الترا جزائر" أن الاعتراف يستدعي القيام بما يستلزم الأمر لفرنسا من تصحيح الأخطاء وإزالة الآثار، وتقديم التعويضات، مثل موضوع الألغام المزروعة على طول الحدود الشرقية والغربية والتي ما زالت حتى الآن تودي بالعديد من الضحايا، وتمكنت قوات الجيش الجزائرية من إزالة أكثر من ثمانية ملايين لغم.
في هذا الملف الخاص بالألغام، ذكَّر الحقوقي بأن تسليم الخرائط المتعلقة بخطي "شال وموريس" لنزع الألغام، مطلب رئيسي للجزائر، إذ أفاد تقرير حكومي أن هذه الألغام تسبّبت في مقتل ثمانية آلاف شخص والآلاف من المعطوبين من سُكان الحدود الجزائرية.
من يحاكِم من؟
لقد توسّع النّقاش في الجزائر، حسب ما طرحه الباحثون في التاريخ، إذ لم يقتصِر حول ضرورة الاعتراف بالجرائم التي ارتكبها المستعمر الفرنسي فقط، بل امتدّ ليشمل طبيعة المسؤولية حول الاعتراف الفرنسي بالجرائم المقترفة في حق الجزائريين؛ هل هي مسؤولية تجاه الشعب الجزائري الذي انتهكت حقوقه خلال الفترة الاستعمارية؟ أم تجاه المجتمع الدولي بسبب انتهاك قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان؟
وللإجابة على هذه التساؤلات يقول الباحث في التاريخ، محمد السعيد بوعصيدة، أن اعتراف فرنسا بهذه الجرائم يعتبر حقًّا من حقوق الإنسان من جهة، وبالتالي فمن حقّ الجزائريين أن تعترف فرنسا لما اقترفته من جرائم، وأيضًا يعتبر حقًا من حقوق المجتمع الدولي، على اعتبار أن الأخير هو الذي وضع أسس القانون الدولي وأظهر الضمانات وآليات حمايتها من جهة أخرى، على حدّ قوله.
وأمام الكمّ الهائل للجرائم المقترفة في الأرض الجزائرية خلال فترة الاستعمار، يمكن تصنيف الانتهاكات الفرنسية إلى مستويين إثنين، يتعلّق الأول بـ "الانتهاكات التي لا تزال الأدلة متوفرة حيالها بشكل لافت وأضرارها موجودة ليومنا هذا مثل التجارب النووية في الصحراء الجزائرية والألغام، أما الثاني يتصل أساسًا بالانتهاكات التي مورست ضد المقاومات الشعبية"، حسب المتحدّث.
وأشار بوعصيدة في حديث لـ "الترا جزائر" إلى الأدلّة عن تلك الجرائم التي اعترفت بها فرنسا، من بينها "الأضرار التي لازالت باقية على ضحايا الانتهاكات، ووثائق وتقارير تثبت الانتهاكات، وأيضًا اعترافات فرنسية بجرائم ارتكبها كبار الضباط والجنرالات"، ومنها اعتراف الجنرال بول أوساريس بجرائمه أثناء الحرب التحريرية والتي نشرها في كتابه "مصالح خاصّة"، وهي اعترافات، فضحت عمليات التعذيب التي اقترفها، لكن يبقى دون عرضها على القضاء.
كما سجّلت اعترافات كلّ من رئيس المخابرات الفرنسية السّابق بالجزائر الجنرال "جاك ماسو"، خلال تقرير نشرته الجريدة الفرنسية " لوموند" في العام 2000، إذ اعترف بعمليات تعذيب وإعدامات مورست على الجزائريين في فترة الحرب التحريرية، فضلا عن اعتراف الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولند، في زيارته للجزائر قائلًا إنّ "الاستعمار الفرنسي للجزائر كان جريمة وظلمًا قاسيًا على الشعب الجزائري".
وتبعًا لاعترافات بعض الأطراف الفرنسية وبعض الأدلة حول تلك الجرائم، فالشعب الجزائري والدولة الجزائرية هما المعنيان بالانتهاكات، ضد حقوق الإنسان، شدّد الباحثون على ضرورة أن تعترف الدولة الفرنسية بجرائمها ضد الإنسانية دون أن يتوقف عند ذلك بل تترتب عليه المسؤولية بنوعيها الجزائية والمدنية، وما ينجر عنها من حقوق للشعب والدولة الجزائرية.
جدل قديم
وجب التذكير أن الجدل القائم بين الجزائر وفرنسا، وعودة ملفّ الذاكرة للواجهة، لم يكن وليد التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ بل بدأ منذ مصادقة البرلمان الفرنسي على قانون تمجيد الاستعمار في شهر شباط/فيفري 2005، وهو ما حرك المياه الراكدة بين البلدين، إذ ارتفعت أصوات كثيرة في الجزائر إلى ضرورة إعادة فتح الملفات الشائكة بينهما، والبحث عن مخارج تسوي المسائل الكبرى من زمن الاستعمار الفرنسي.
لكن فرنسا لازالت تتعامل مع هذا الملف بفكر استعماري، على حدّ تعبير الرئيس تبون، الذي طالبها في تصريحاته الأخيرة إلى ضرورة أن تتجاوز هذا الفكر "الاستعلائي"، والتعامل مع التاريخ دون تزييف للحقيقة واحترامًا لدماء الشهداء الذين سقطوا منذ احتلال البلاد.
يتطوّر المطلب الجزائري إلى التركيز على الاعتراف وما يترتب عنه من مسؤولية التعويضات
يتطوّر المطلب الجزائري إزاء فرنسا بشأن ملفّ الذاكرة، نحو الخروج من ثلاثية الاعتراف والاعتذار والتعويض، إلى التركيز على مطلب متعلق بالأساس على الاعتراف وما يترتب عنه من مسؤولية التعويضات، وهذا يستدعي من الحكومة الجزائرية أن تبذل جهدا أكبر لتحقيق هذا المطلب والضغط على السلطات الفرنسية في هذا الاتجاه، فضلا عن توحيد المواقف الرسمية وغير الرسمية حيال افتكاك إقامة المسؤولية الفرنسية المزدوجة تجاه الشعب والدولة الجزائرية وتجاه المجتمع الدولي.
اقرأ/ي أيضًا:
ماكرون: مجازر 17 أكتوبر لا تُغتفر
ماكرون: النظام الجزائري أنهكه الحراك الشعبي
اقرأ/ي أيضًا: