في ظرف سنتين، تغيرّت الساحة السياسية في الجزائر، وانحسر وجود الأحزاب بمختلف مشاربها، والتي كانت قبل ذلك تقود قاطرة الإدارة المحلية والمركزية، وانهارت معها مختلف التنظيمات المالية والمجتمعية، التي كانت تسندها خلال فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
تعتبر الانتخابات المحلية التشريعية والمحلّية الامتحان الأهمّ للأحزاب السياسية في الجزائر
في هذه الفترة الوجيزة مرّت السلطة في الجزائر بامتحانين عسيرين؛ الأوّل تأجّل مرتين، يتعلق بالانتخابات الرئاسية التي أفرزت فوز المترشح الحر عبد المجيد تبون، والثاني اختبار الدستور الذي أفرز نكسة بالأرقام وعزوف كبير لدى المواطنين، لتستعدّ اليوم لخوض غمار منافسة متعددة الأطراف، بحثًا عن كسب المواطن وتُعيد آليات النظام وأدواته إلى السكّة.
اقرأ/ي أيضًا: سلطة الانتخابات تجرّ أربعة متّهمين بالتزوير إلى القضاء
القاعدة الشعبية
إجرائيًا، تعتبر الانتخابات المحلية المحلّية والبلدية ثم الانتخابات التشريعية، الامتحان الأهمّ للأحزاب السياسية في الجزائر، باعتباره المقياس الأساسي لتحسّس وجودها في القاعدة الشعبية، فهي تنظر إليه اليوم بعين الريبة، خاصّة وأن الواقع يفرض عليها استمالة المواطنين للانتخاب أولا ثم إقناعهم بالبرامج ثانيًا، في حين تسارع السلطة السياسية في البلاد نحو إقناع المواطن الجزائري بالانخراط في العملية الانتخابية برمتها والترشّح في المناصب المحليّة والنيابية.
عمومًا، شكلت الانتخابات صداعًا في رأس السلطة، خاصة عقب تجربة الاستفتاء الأخير على وثيقة الدستور الجديدة في الفاتح نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ اعتبرها متخصّصون في المجال السياسي والانتخابي، تجربة تعكس مدى الانفصال التامّ بين النّاخبين ككتلة والعملية السياسية في الشّأن العام، رغم أن الانتخاب على الدستور يعني جميع أطياف المجتمع، باعتباره وثيقة رسمية ناظمة للعمل الإداري والسياسي والمجتمعي للبلاد، ولا يعني حزبًا سياسيًا بعينه.
وضعية قائمة
على مرّ التجارب، ظلّت الانتخابات في الجزائر تشوبها الشّكوك، خاصّة في العشرية الأخيرة، التي تزامنت مع هيجان الشارع في عدد من البلدان العربية منها الجزائر في 2011، ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي"، إذ عرفت البلاد في العشر سنوات الأخيرة أربعة انتخابات خلال سنتي 2012 ثم 2017 على التوالي، بين استحقاقين محليين واستحقاقين برلمانيين، غير أنّها في المقابل من ذلك، لم تتمكّن من استقطاب المواطن حول المشاريع الانتخابية الخاصة بالأحزاب، وظلت البلاد تعرف احتجاجات فئوية خاصّة منها حول السكن والشغل وتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لعديد القطاعات الشغيلة، ووجهت للمنتخبين في المجالس المحلية والبرلمانية انتقادات لاذعة متصلة بالإخلال بالعهود والإخفاق في مشاريع التنمية وفشلهم في تنفيذ الوعود التي أطلقوها خلال الحملة الانتخابية.
انخراط وجوه جديدة
برزت خلال هذه الفترة، تساؤلاتٍ جوهرية، تتعلّق بتقييم شامل للمنتخبين المحليين في الجزائر العميقة عبر أزيد من 1500 بلدية. ماذا جنى المواطن من مشاريع التنمية التي باشرتها مختلف الحكومات السابقة؟ في المقابل تبرز محاكمات رموز فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، مدى تفشي الفساد في مختلف القطاعات، ومدى الغبن الذي يعانيه المواطن، وهو ما يُظهر وجود هوّة واسعة بين المواطن والإدارة انعكست على مدى مشاركته في الانتخابات.
الملاحظة التي يمكن تسجيلها، منذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، خطابه حول إعطاء الفرصة للشباب وإفساح المجال لجمعيات المجتمع المدني، ودفع الشباب للتقدم في الانتخابات المقبلة في قوائم مستقلة، وهذا بعد أن كشفت العملية السياسية منذ الحراك الشعبي في الـ 22 من شباط/ فيفري 2019، فشل الأحزاب السياسية التقليدية (الكبرى)، وهي التي ظلّت لسنوات طويلة تلعب دور السيطرة على الإدارة وخرجات العملية الانتخابية.
امتحان صعب
على مستوى الفضاء المحلي، يعتقد الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة باتنة، عبد الكريم سلامي أن الواقع الانتخابي في الجزائر أفقد المواطن ثقته في الحاكم، لافتا في تصريح لـ"الترا جزائر" أن عدد معتبر من المنتخبين لم يتمكنوا من إيجاد حلول لمشاكل التنمية وهو ما خلف ما يصطلح عليه اليوم بـ"مناطق الظلّ"، ما يعني أن الانتخابات المحلية المقبلة ستعرف حجم السياسي في عين المواطن البسيط، أو بعبارة أخرى، فإن المترشّحين القادمين سيكونون أمام امتحان صعب.
في سياق متصل، يرى الباحث سلامي، أن الأرقام والإحصائيات أثبتت فشل الأحزاب المعروفة في الساحة، خصوصًا وأنها كانت وجه من أوجه المنظومة القديمة التي اتّهمت بالفساد، غير أن القانون الجديد للانتخابات سيمنح الضوء الأخضر للمجتمع المدني، الذي يشكّل وجها آخر للممارسة السياسية مستقبلًا، غير أنّه في المقابل من ذلك لن يبتعد عن تشكيلات سياسية قديمة خاصّة إن عرفنا أن الجمعيات والمنظمات كانت أحد أشكال النضال السياسي داخل تلك الأحزاب.
ورغم أمل وجود مجتمع مدني قوي، إلا أن ميكانيزمات تشكيله تفرِض " الشكّ والتوجّس" حول مدى قدرته على استيعاب مشاكل المواطن المحلية خاصّة، وسبل رفعها إلى قبّة البرلمان، حسب المتحدث، مشيرًا إلى عدد 8 ملايين جزائري يعيشون في منتطق مهمّشة، هشة وتفتقر لأدنى شروط الحياة.
بالعودة إلى الماضي، أثبتت التجارب الميدانية في الاستحقاقات أن الانتخابات المحلية والبرلمانية هي عبارة عن "شراء أسهم في بورصة السياسة"، كما يقول النّاشط الجمعوي وليد بلعالية لـ "الترا جزائر"، متحدثًا باعتباره منخرط في المجتمع المدني بمدينة خنشلة شرق الجزائر، قائلًا إن القاعدة في مثل هذه الانتخابات، أن الحملة الانتخابية وعود وبعد الانتخابات ينتظر المواطن سنوات طويلة للتنفيذ، مختصرا قوله أنه "قبل الحدث السياسي يتقرّب المترشّحون للمواطنين ويغدقون عليهم بالأحلام، وبعد الانتخابات يبحث المواطن عن قطرة ماء في عزّ فصل الصيف أو حقنة لعلاج تكلّفه الكثير".
إمكانية التغيير؟
إذا عدنا إلى الواقع السياسي في الجزائر، ومختلف التجاذبات التي عرفها الشارع منذ الحراك الشعبي، يرى الباحث في علم الاجتماع السياسي، الأستاذ ناصر جابي أن المقاطعة هي ردّ فعل المواطن حيال الانتخابات عمومًا في الجزائر، لافتًا إلى أن "الأحزاب والنخب السياسية تتلهّف على هذا النوع من الانتخابات"؛ أيّ البلديات والبرلمان بغرفتيه.
وبرؤيته الأكاديمية حول الانتخابات المحلية والنيابية، وصف الأستاذ جابي أن السلطة في الجزائر تعمل على تدوير محدود للنّخب المحلية والمركزية، إذ تمنح لها الفرصة لـ "الاندماج داخل مؤسسات الدولة على مستوى المجالس البلدية والبرلمان في المركز". ويعتقد الأستاذ جابي أن الانتخابات بعيون السلطة لا يُرجى منها لأن تكون وسيلة للتغيير السياسي، وإنّما إعادة انتاج نفس البرامج، وهو ما يبعِد المواطن عنها.
توقّعات كثيرة تصب في خانة استمرار المقاطعة الشعبية للانتخابات
رغم الإجراءات الجديدة التي أقرّتها بخصوص تنظيم الانتخابات المحليّة والتشريعية، بدءًا بتعديل قانون الانتخابات والتشاور مع المعارضة، إلا أن توقّعات كثيرة تصب في خانة استمرار المقاطعة الشعبية للانتخابات، واستمرار الهوّة بين الأحزاب والمجتمع الانتخابي.
اقرأ/ي أيضًا:
مشروع قانون الانتخابات.. تغيير نمط الاقتراع وفرض شروط جديدة للترشح
قانون الانتخابات الجديد.. نحو حلّ مشكلة المال الفاسد والعزوف الانتخابي