تشهد الجامعات الجزائرية هذه السنة ولأول مرة الشروع في تدريس المواد المقرّرة في مختلف التخصّصات والكليات باللغة الإنجليزية بدل الفرنسية، في خطوة يُبتغى من ورائها تدارك التأخّر العلمي المسجل في قطاعات التعليم العالي بسبب التبعية غير المبررة للفرنسية في معظم التخصصات، وبالتحديد العلمية منها، فهل سيكون هذا الانتقال اللغوي سهلًا على الطلبة والأساتذة أم تواجهه عديد الصعوبات؟.
الدكتور عمار سيغة لـ "الترا جزائر": عديد البحوث الجامعية الجزائرية المنجزة بالفرنسية بقيت في الأدراج، بالنظر إلى أن الكثير من المنصّات العلمية العالمية تشترط النشر بالإنجليزية
وبعد تبعية كلية للفرنسية في عديد الجامعات الجزائرية لسنوات، بسبب الاعتماد عليها في التدريس، اتخذت وزارة التعليم العالي هذا العام قرارًا بموجبه يحق للأساتذة الجامعيين تدريس طلبتهم بالإنجليزية بدل الفرنسية.
أّوّل مرة
تشهد الجامعة الجزائرية هذا العام لأول مرة الانطلاق في السماح بتدريس مختلف المواد سواءً العلمية أو الاجتماعية والأدبية باللغة الإنجليزية بدل الفرنسية مثلما كان يتم سابقًا، في خطوة تريد بها الحكومة الذهاب بعيدًا في مشروع رفع الإنجليزية إلى لغة أجنبية أولى في البلاد بدل الفرنسية، التي عمّرت طويلًا في هذا المركز رغم تراجعها الرهيب عالميًا.
وكانت وزارة التعليم العالي قد أعلنت في تموز/جويلية الماضي، قد قررت اعتماد اللغة الإنجليزية في التدريس بداية من الموسم الجامعي الجاري، وذلك بعد إطلاق برامج تكوين الأساتذة منذ بداية السنة الجامعية المنصرمة.
وتعد هذه الخطوة استمرارًا لإجراءات اتخذتها الحكومة للتوجه في التعليم بالإنجليزية بدل الفرنسية، والتي انطلقت العام الماضي في مرحلة التعليم الابتدائي بتدريس الإنجليزية بداية من السنة الثالثة، تواصلت هذا العام، بعدما كانت سابقًا لا تلقّن للتلميذ إلا في مرحلة التعليم المتوسط.
وكان قطاع التعليم العالي السباق لاعتماد الانجليزية، حنما طُرحِ في عهد وزير التعليم العالي السابق الطيب استفتاء على الإنترنت حول تعميم استعمال اللغة الإنجليزية في كل أطوار التعليم العالي بالجامعات الجزائرية والمعاهد التابعة له، والذي كانت نتائجه مبهرة بالنسبة لداعمي هذا الطرح، إذ أيد 93% من المستفتين التوجه نحو تعميم التدريس بالإنجليزية.
واستمر هذا المشروع حتّى بمغادرة الطيب بوزيد قطاع التعليم العالي، لكن الرجل ظل ضمن اللجنة الوزارية المكلفة بهذه الخطوة، والتي تكللت نتائجها باعتماد التدريس بالإنجليزية في المؤسّسات الجامعية بداية من الموسم الحالي.
ضرورة تعليمية
إلى هنا، يعتقد أستاذ إدارة الأعمال بجامعة الجلفة البروفيسور لخضر مداح، أن التوجه لاعتماد الإنجليزية في قطاع التعليم العالي مرده بالدرجة الأولى حاجة بيداغوجية، بالنظر إلى أن الإنجليزية أصبحت لغة العلم في العصر الحديث وكل التخصصات تعتمدها في بحوثها ومقالاتها العلمية، حتى في الجامعات الفرنسية نفسها التي يتم فيها إدارة ندوات بلغة الإنجليز، وفق ما قاله لـ"الترا جزائر".
وبدوره يؤكد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور عمار سيغة لـ"الترا جزائر" أن التوجه نحو اعتماد الإنجليزية لغة للتدريس في الجامعات يرتكز على جوانب بيداغوجية علمية، أملاها الاستعمال الواسع لها في مختلف العلوم الإنسانية والعملية والاجتماعية عبر معظم دول العالم، ما جعل ثلثي المعمورة يستخدمونها في بحوثهم وتعاملاتهم الاقتصادية ومجالات عملهم.
وأشار سيغة، إلى أن عديد البحوث الجامعية الجزائرية المنجزة بالفرنسية بقيت في الأدراج، بالنظر إلى أن الكثير من المنصّات العلمية العالمية تشترط النشر بالإنجليزية، وهو ما لا تستطيع تقديمه بعض النخب الجزائرية الجامعية.
من جهته، أوضح البروفيسور لخضر مداح، أن التدريس بالإنجليزية سيكون هذا العام اختياريًا وليس إجباريًا، بالنظر لعدم اكتمال البنية التحضيرية اللازمة لتدريسها، لأن الظروف الحالية قد لا تكون في صالح الأساتذة والطلبة معًا، بالنظر لعدم إجادتهم لغة شكسبير بالشكل اللازم، رغم إقراره بأن الصعوبة قد تكون على مستوى هيئة التدريس، بالنظر لأن الجيل الجديد من الطلبة متفتح على الإنجليزية ومستواه أحسن من الأجيال السابقة.
وثمّن مداح قرار وزارة التعليم باعتماد تدريس الانجليزية تدريجيًا، داعيًا إلى تمكين الأساتذة من الحصول على الآليات اللازمة التي تجعلهم قادرين على تعليم طلبتهم باللغة الإنجليزية بالشكل اللازم، مثل إلزام الأساتذة الذين في يستفيدون من تربصات خارجية بأن تكون الوجهة نحو دول أنجلوسكسونية، وفي مدة زمنية معقولة لتسريع عملية الانتقال إلى التدريس الكلي بالإنجليزية في الجامعة الجزائرية.
رهان سياسي
رغم الأهمية البيداغوجية في بداية التخلّي عن الفرنسية لغة للتعليم والبحث بالجامعة، واستبدالها بالفرنسية، إلا أن هذا القرار لا يخلو من الأبعاد السياسية، حسب ما أوضحه الدكتور عمار سيغة لـ"الترا جزائر".
وأشار أستاذ العلوم السياسية والعلاقة الدولية إلى أن الشروع في التدريس بالإنجليزية في الجامعات يأتي ضمن سياق سياسي تنتهجه الجزائر منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم في كانون الأول ديسمبر 2019 الذي دعّم التخلي عن كل ما هو فرنسي في الجانب العلمي.
وقال الرئيس تبون في مقابلة تلفزيونية في آب/ أوت 2022 إن "الفرنسية مجرد غنيمة حرب، أما اللغة الدولية فهي الإنجليزية".
ولفت سيغة إلى أن القرار الجزائري يندرج ضمن الخيبات التي تتلقاها فرنسا على مستوى النفوذ في السنوات الأخيرة على المستوى الأفريقي، والجزائر نموذج لهذا الإخفاق الفرنسي.
وحسب الدكتور عمار سيغة، فإن اتخاذ القرار جاء أيضًا جراء تراجع نفوذ التيار الفرانكفوني في صناعة القرار في الجزائر، وعلى مستوى قطاع التعليم العالي الذي كان في السابق رهينة التوجهات الأيديولوجية لهذا التيار، وذلك في وقت تعرف الجامعة ظهور جيل جديد من الأساتذة الذين درسوا في جامعات أنجلوساكسونية.
وبالنسبة لأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فإن قرار التدريس بالإنجليزية في قطاع التعليم العالي يمكن تصنيفه بأنه "ضربة موجعة" للتيار الفرانكفوني والموالين له، لأنه يؤكّد التراجع للعيان الذي لحق باللغة الفرنسية، فصارت المداخلات تقدم بالإنجليزية في عقر دار لغة موليير.
البروفيسور لخضر مداح دعا إلى تمكين الأساتذة من الحصول على الآليات اللازمة التي تجعلهم قادرين على تعليم طلبتهم باللغة الإنجليزية
ومهما كانت أسباب التوجّه نحو التدريس بالإنجليزية، فإن الأساس في هذه الخطوة هو أن تكون الأهداف العلمية والبيداغوجية هي ركيزة هذا التحول في وسيلة التعليم، لأن هذا المنطلق هو الوحيد القادر على الانتقال بقطاع التعليم العالي في البلاد إلى مرحلة الجودة والنوعية والذهنية الاقتصادية الاستثمارية.