تبدي كلّ من الجزائر وتركيا حرصًا متناميًا على تمتين العلاقات الاقتصادية وتوسيع حجم الاستثمارات بينهما، بما يعود بالفائدة على كلا البلدين، حيث تجسّد ذلك مؤخّرًا في التعاون الثنائي المبني على قاعدة "رابح - رابح"، وصولًا إلى رغبة البلدية في المضي إلى المستوى الإستراتيجي في اللقاء المقبل للجنة الثنائية العليا المشتركة، فما هي مؤشّرات تنامي هذا التعاون بين الجزائر وتركيا؟
بعد توقيع معاهدة 2006 أخذت الشراكة بين البلدين منحىً تصاعديًا جعلت الجزائر الشريك الأول لتركيا في أفريقيا لعدة سنوات
بعيدًا عن تاريخهما المشترك الطويل، تبني الجزائر وتركيا اليوم شراكتهما على أسس اقتصادية بحتة شعارها المصلحة الثنائية بعيدًا عن كل الحسابات السياسية التي تقوم بها بعض الاستثمارات الأجنبية في الدول الأفريقية.
اقرأ/ي أيضًا: العلاقات الجزائرية التركية.. تنامي حجم الاستثمارات يُعزّز التوافق السياسي
الانطلاقة
هنا، ورغم أن التعاون الجزائري التركي كان موجودًا منذ القرن الماضي، في مجالات عدة وكانت تربطهما اتفاقات قطاعية منها على سبيل المثال الاتفاق الجزائري-التركي الخاص بالتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني الموقع في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1983، والذي تم توسيعه في آب/أوت 2018، ليحدد القانون الأساسي تمثيلية الوكالة التركية للتعاون والتنسيق بالجزائر (تيكا)، إلا أن الانطلاقة الحقيقية للشراكة كانت بعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا في الألفية الجديدة، وتولي رجب طيب أردوغان رئاسة الحكومة، والذي قام بأول زيارة للجزائر في 2006، و التي كانت الأولى لوزير أول تركي للبلاد منذ 21 عامًا في علاقات البلدين، وتوجت وقتها بتوقيع معاهدة الصداقة والتعاون التي تبقى حتى اليوم أساس أي تعاون بين البلدين.
وتنصّ معاهدة 2006 على تنظيم قمة سنوية ولقاءات وزارية منتظمة بين البلدين لتقييم مدى تقدم مشاريع التعاون وتطويرها، وتوسيع أسس الشراكة التي تربط البلدين، والتي أصبحت اليوم لا تقتصر على الجانب الاقتصادي والتقني، بل تعدتها إلى المجال السياسي بشأن مختلف القضايا الدولية والإقليمية.
واتفق البلدان عند التوقيع على هذه الاتفاقية التي وقع عليها وقتها من الجانب الجزائرى وزير المالية السابق الراحل مراد مدلسى ،وعن الجانب التركى وزير الطاقة والموارد الطبيعية السابق ميلمى غولار، بحضور الرئيس السابق المتوفى منذ أسابيع عبد العزيز بوتفليقة ونظيره أردوغان، على تعزيز الحوار السياسي وتنظيم اجتماع سنوي بين رئيسي حكومتي البلدين، وتنظيم اجتماعات وزارية بالتناوب بالجزائر وأنقرة، وتشجيع الاستثمارات، لاسيما فيما يتعلق بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتبادل التجارب والخبرات، وتشجيع الأعمال الثقافية المتبادلة بترقية الثقافة وتعليم اللغتين العربية والتركية في البلدين.
وقال أردوغان وقتها إن هذه المعاهدة "ستسمح للبلدين بتعزيز التعاون بشكل أفضل في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية و الثقافية".
وخلال زيارة أردوغان في 2006، كانت المبادلات التجارية بين البلدين عند 2.5 مليار دولار سنة 2005، وبلغت صادرات الجزائر نحو تركيا في السنة نفسها ما قيمته 1.5 مليار دولار، فيما كانت تستورد من أنقرة ما قيمته 800 مليون دولار.
دفع متواصل
بعد توقيع معاهدة 2006، أخذت الشراكة بين البلدين منحىً تصاعديًا جعلت الجزائر الشريك الأول لتركيا في أفريقيا لعدة سنوات، بالنظر إلى حجم الاستثمارات التي قامت بها أنقرة حتى اليوم في الجزائر طيلة 15 سنة من إمضاء هذه المعاهدة.
وبموجب هذه الاتفاقية، باشرت عدة مؤسسات التركية استثماراتها في الجزائر في عدة قطاعات، منها السكن والبنى التحتية والنسيج والصناعة والخدمات، غير أن الحضور التركي برز في مصنع الحديد والصلب بيلدية بطيوة بولاية وهران الذي أطلقه أردوغان في 2013 لما كان وزيرًا أول، حينما كانت تركيا تأمل في رفع استثماراتها بالجزائر إلى 1.5 مليار دولار على الأقل، وهو المشروع الذي عاد أردوغان لافتتاحه رسميًا في 2014 والذي أنجزته شركة "توسيالي آيرون أند ستيل" التركية.
وتصل القدرة الإنتاجية لمصنع وهران 1.25 مليون طن سنويًا، وهو أكبر استثمار لتركيا خارج أراضيها، حيث تشير بطاقته التقنية إلى توفير ألف وظيفة مباشرة و3500 وظيفة غير مباشرة في المنطقة، في حين بلغت تكلفته 750 مليون دولار.
وانطلق المصنع في مرحلة الإنتاج الفعلي عام 2017، وبلغ إنتاجه العام الماضي 2.23 مليون طن من مختلف المنتجات الحديدية، ويوظف اليوم 3800 عامل.
في هذا السياق، قال عضو مجلس إدارة مصنع "توسيالي الجزائر" ألب توبسي أوغلو، في حديث إلى وكالة الأنباء الجزائرية في شهر نيسان/أفريل الماضي، إن المصنع يتوقع أن تبلغ قيمة صادراته في العام الجارس 700 مليون دولار، بنمو يصل إلى 600 بالمائة مقارنة مع سنة 2020.
أما الاستثمار الثاني التركي المهم لتركيا في الجزائر فهو مصنع "تيال" للنسيج؛ وهو نتاج شراكة بين البلدين بقيمة 714 مليون دولار، وهو الأكبر على المستوى الأفريقي، ورغم دخوله الإنتاج في آذار/مارس 2018، إلا أن ثماره الميدانية تبقى غير ملموسة بشكلٍ بارز مثل مصنع الحديد، بالنظر إلى أن الجزائر لا تزال تلبي أغلب احتياجاتها من الألبسة والنسيج من خارج الوطن.
وعلى العموم بلغ حجم المبادلات التجارية بين الجزائر وتركيا 4.2 مليارات دولار العام الماضي، ويأمل البلدان رفعه قريبًا إلى 5 مليارات دولار، فيما تنشط أكثر من 1300 شركة تركية مستثمرة بالجزائر، وتوظف حوالي 25 ألف جزائري.
من الطرفين
وما يختلف في الشراكة الجزائرية مع تركيا عن باقي الدول الأخرى أنها مبنية على مبدأ رابح – رابح، وهو ما تجلى في استثمار الجزائر عبر شركة "سوناطراك" في تركيا.
وأعلنت شركة سوناطراك البترولية، أن الرئيس المدير العام توفيق حكار، شاركَ الأسبوع الماضي، في مراسم توقيع ثلاثة عقود متعلقة بتطوير المشروع البتروكيمياوي لإنتاج البوليبروبيلان بمدينة جيهان التركية، مبينة أن العقد الأول يتعلّق بإنجاز المشروع بكل مراحله، من الدراسات الهندسية المفصَّلة والمشتريات والإنجاز وبدء التشغيل (EPCC)، والعقد الثاني يرتبط بأشغال الصيانة الدورية للأجهزة والمعدات، أما العقد الثالث فهو لخدمات بيع وتسويق الإنتاج.
وحضرَ مراسم التوقيع الرئيس أردوغان، ووزيرَي الصناعة والنقل التركيَّين والمديرَين التنفيذيَّين لـ"رونسانس"، شريك "سوناطراك" في هذا المشروع، إضافة لممثّلي الأطراف المتعاقدة وممثِّلين عن سفارة الجزائر بتركيا.
وتساهم "سوناطراك" بنسبة 34% في هذا المشروع، وتضمن تموينه بالمادة الأولية، البروبان، في إطار عقد طويل المدى باعتماد أسعار السوق الدولية.
وكان البلدان قد وقعا مذكّرتَي تفاهُم عام 2019 خلال زيارة الرئيس أردوغان للجزائر، بين مجمع "سوناطراك" والشركات التركية "بوتاس" و"رونسانس" و"باييجان"، تتضمن بناء منشأة للبتروكيماويات في المنطقة الحرة بأضنة بتركيا تصل قيمتها إلى أكثر من مليار دولار.
واستكمالًا لهذه المذكرة، وقّع البلدان في تركيا اتفاقًا بين "سوناطراك" والمؤسسة التركية "رونسانس" لتنفيذ استثمار بقيمة 1.4 مليار دولار، لإنجاز مركّب لإنتاج مادة البوليبروبيلان بمدينة جيهان، وتنتج هذه المنشأة 450 ألف طن من البوليبروبيلان سنويًّا باستخدام مواد خام تصدرها الجزائر، ما سيخفض اعتماد تركيا على البتروكيماويات المستورَدة من الخارج بنسبة 25%.
وتظل تركيا من المستوردين للغاز الجزائري، وفق اتفاقية تم تجديدها في السنوات الأخيرة، مع العلم أن تطوير الشراكة الطاقوية بين البلدين شكلت محور مباحثات جمعت مؤخرًا وزير الطاقم والمناجم محمد عرقاب مع السفيرة التركية بالجزائر.
رغم التعاون المتنامي بين الجزائر وتركيا في المجالين الاقتصادي والسياسي إلا أنه يبقى دون الإمكانات التي يتوفران عليها
ورغم التعاون المتنامي بين البلدين في المجالين الاقتصادي والسياسي إلا أنه يبقى دون الإمكانات التي يتوفران عليها، حيث أعلن الرئيس أردوغان في زيارة سابقة للجزائر أن بلاده ترغب في رفع المبادرات التجارية بين البلدين إلى 10 مليارات دولار، وهو أمر يمكن تحقيقه في حال ما تم استغلال الفرص التي يتوفر عليها كلا الطرفين، ولعل إعادة بعث الرئيس تبون لاتفاقية الملاحة البحرية مع تركيا نيسان/أفريل الماضي بعد تعليقها لعقدين في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والتي تشمل نقل الركاب والبضائع والتعاون التقني في بناء السفن وإصلاحها وتشييد الموانئ، سيصب في هذا الاتجاه، خاصة وأن الجزائر تنوي رفع نشاط نقل الغاز عبر البواخر في السنوات المقبلة بهدف دخول أسواق دولية جديدة.
اقرأ/ي أيضًا:
الجزائر تُسلّم تركيا قياديًا في تنظيم فتح الله غولن
سوناطراك توقع مذكرة تفاهم مع "وينترشال ديا"