رغم مرور خمسة وخمسين عامًا على الاستقلال الوطني إلا أنّ مكاتب بريدنا في الجزائر لم تخل من شيوخ تعلّموا في العهد الاستعماري كتابة الحوّالات والشّيكات! مقابل دنانير معدودات. يفعلون ذلك للأمّيين في الظّاهر، لكنّهم يستقطبون أيضًا أعدادًا لا بأس بها من المحسوبين ورقيًا على المتعلّمين، غير أنّهم محسوبون عمليًا على الأمّيين! كم عدد الأمّيين بالمعايير الدولية للأمّية في الجزائر؟
كثيرون داخل الأجهزة الحاكمة لهم نزعة نحو إجهاض كل مشروع يرمي إلى تحديث الوسائل والآليات خوفًا من أن يجدوا أنفسهم خارج اللعبة
كلّما دخلت مكتب البريد مكثت وقتاً أرصد فيه الجمار المتطايرة من عيني كاتب الحوّالات والشّيكات، وهو يعاين شخصًا يعتمد على نفسه في عمل ذلك، أو يستعمل البطاقة مباشرة! إن يده تقبض على الأميين أو الكسلاء وعينه الغاضبة والحاسدة على المتعلّمين! وإذا أردت أن تجعل قلبه يتوقّف، فتحدّث أمامه عن تحديث نظام الدّفع، بحيث يتمّ التخلّي عن الشّيكات الورقية تمامًا، كما بات معمولًا به حتى في دول استقلّت بعدنا.
اقرأ/ي أيضًا: مخترعون جزائريون.. تحت عدسة التجاهل
كم شخصًا يشبه هذا المخلوق، داخل الأجهزة الحاكمة، في نزعته نحو إجهاض كل مشروع يرمي إلى تحديث الوسائل والآليات؟ بحيث يجد نفسه خارج اللعبة، إمّا لأنه لا يحسن استعمالها، وإمّا لأنها ستجعل العمليات المختلفة شفّافة؟ هل تعطّل مشروع الحكومة الإلكترونية عبثًا؟ لماذا ينظر المسؤول في بلداننا إلى مهندس الإعلام الآلي (مهندسي التكنولوجيات الحديثة) شزرًا داخل المؤسسة؟
لنتأمّل واقعنا العام، وسنجد نزعة تعطيل تحديث الوسائل ثقافة عامّة: في البيت يرفض الأب تجديد التلفزيون أو السيّارة، حتى لا تنتقل سلطة التحكّم والقيادة إلى أولاده، وفي المسرح يرفض المدير التقني تجديد أجهزة الصوت والإضاءة، حتى لا تنتقل السّلطة إلى التقنيين الجدد! هل نملك مسرحًا واحدًا يمكنه أن يستقبل عرضًا بالمعايير الدولية؟ وفي عالم النّشر لم ندخل مرحلة النشر الإلكتروني بعد! وهلمّ تعطيلًا وتسويفًا وتسفيهًا.
من أهم أسباب هجرة الأدمغة التي نتغافل عنها في بلداننا العربية سياسة تعطيل المواهب من خلال تعطيل تحديث الوسائل
اقرأ/ي أيضًا: "العودة".. خيبة أمل جزائرية
لقد حصرنا أسباب هجرة الأدمغة، في بحثها عن فرصة مالية أفضل، حتى نتفّه الموضوع، فنحن مبدعون في التهرّب من مواجهة الأسباب الحقيقية لنزيفنا العام، لكنّنا لم نشر إلى أنّ من أسبابها هيمنة سياسة تعطيل المواهب من خلال تعطيل تحديث الوسائل. إذ ماذا ننتظر من شابّ اختار دراسة تكنولوجيا معينة، من باب الشغف بها، ثمّ يتخرّج، فيجد في الواقع أنّ أحدث آلة متعلّقة بها قد جلبت يوم ختانه؟ لا شكّ في أنه سيحلم بأن يهاجر إلى بيئة تتعامل مع الآلة بصفتها أجيالاً مثل البشر.
هل درسنا ما الذي يحدث لنفسية وذهنية طفلنا، وهو يستعمل الأوراق، في الدراسة، بينما يشاهد في الأنترنت نظيره الغربي أو الخليجي يستعمل التكنولوجيات الحديثة، ولا يستعمل الأوراق إلا لمسح يديه؟ هل سيصدّق مضامين الأناشيد الوطنية، التي تقول إن الجزائر أعظم الأوطان؟ لقد كانت جديرة بأن تسمّى كذلك حين استطاعت أن توفّر التعليم وتجعله إجبارياً في الدستور، بغضّ النظر عن حداثة وسائله، رغم أنها كانت خارجة للتوّ من احتلال دام 132 سنة عجفاء، لكن الآن؟
أكتب وفق وينداوز 2010، ثم حاول أن تقرأ ما كتبت وفق وينداوز 2007، مع مراعاتنا للتطوّر الحاصل في هذا الباب، وستجد أن موضوعك قد تحوّل إلى مربّعات، لأن هناك فارقًا في الزمن. حين نفهم هذا المعطى البسيط، فسندرك لماذا بقينا داخل مربّع التخلّف، في عالم بات يتطلّع إلى المرّيخ.
اقرأ/ي أيضًا: