ليس خافيًا على أحد، سلطة ومعارضة، بأن الانتخابات كشكل من أشكال التعبير الديمقراطي الحر، شهدت منذ أول انطلاقة تعددية لها نهاية الثمانينيات إلى رئاسيات سبتمبر/ أيلول 2024، انجرافًا في تربة خصوبة المشاركة بسبب موجة التصحر السياسي، التي ما فتئت تتفاقم عقدًا بعد آخر، حتى أن الرئيس عبد المجيد تبون لم يجد من ينافسه، بشكلٍ جديٍّ، في آخر منازلة غير متكافئة، انتهت لسوءِ البخت بجدل سوء الحساب لرئيس هيئة وطنية مستقلة تحدث كما لو أنه وزير داخلية، عن الظروف الجيوسياسية الجهوية والدولية التي تتهدّد البلاد، مهملًا وظيفته الأساسية في تقديم معطيات تقنية أهمها نسبة المشاركة، فقال كلامًا كثيرًا دون أن يقول المفيد.
يشبه الأمر عدم انتماء شامل حيال كل شيء مرده أوضاع اقتصادية و اجتماعية وثقافية
في مكتب تصويت، طرح عليّ شاب، نظرته للوضع السياسي، بناء على ملاحظاته، فقال: "رأيت أن الذين يصوتون هم في الغالب الأعم من كبار السن والمنخرطين فيما يسمى المجتمع المدني، وثمة غياب سافر للشبان، حتى أني التقيت أحدهم في كشك ولم يكن يعلم بأن اليوم هو يوم مهم لاختيار رئيس البلاد، فهل يأتي علينا يوم تختفي فيه الانتخابات بانقراض الأجيال الانتخابية القديمة؟".
في واقع الحال، لا يعبر تخلي الشبان عن هذا الحق عن موقف سياسي ما من المترشحين، حتى يمكن وضعه في خانة يجري في العادة تصنيفها تحت مسمى المقاطعة، فهي ليست مقاطعة استجابة لدعوة معارضة، فحتى المعارضة لم تعد تملأ عين أحد، ولا هي عزوف عرضي، بل يشبه الأمر عدم انتماء شامل حيال كل شيء، مرده أوضاع اقتصادية و اجتماعية، و الأهم ثقافية عن حياة ذات نسق آخر، في المال والاقتصاد والسياسة، يدفعها إلى التعامل مع انتخابات بهذا الحجم كما لو أنها مجرد دخول مدرسي، يعني أولياء التلاميذ دون غيرهم من باقي القطاعات المشكلة للمجتمع.
من الصعب أن تقنع شبانًا ارتضوا أيامًا قبل الموعد الاستحقاقي العبور إلى الضفة الأخرى للمتوسط، في قارب صيد برقم 101، بحثًا عن حياة أخرى في بلد آخر تختلف عن حياة السردين وزنًا على حياة الماعز.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأية عملية سياسية، التعامل معها كشأن عام لا يعني أحدًا، مع أنها محدد للمصير الجماعي لركاب البابور الواحد، لذا فإن السلطات والمعارضات مدعوة لإعادة الاعتبار لفكرة السياسة في حد ذاتها، ومراجعة أدوات الفعل، فمعالجة التأخر في الفهم مثلما قال مولود حمروش، أهم بكثير من تقديم تبريرات هاربة من الحقائق الواضحة، أهمها دون ريب اتساع الهوة الجيلية.
إننا ندس رؤوسنا في التراب مثل حيوان النعامة إذا ما اعتقدنا أن الأحزاب التقليدية، يمكنها أن تكون قاطرة كلاسيكية لقيادة عربات تشتغل بالنظام الرقمي، إذا لم تتجدد هي، وتجدد خطابها الذي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ أدبيات الثورة البلشفية، فهي لا تزال تتحدث عن " التجنيد"، بدل الأقناع، وتردد خطاب الثورة، بدل الاقتصاد، ثم إنه لا يبدأ الاقناع بالنسبة للأجيال الجديدة والأكثر عددا دون وقوع
" التعرّف" و" المِثال" و " التمثّل"، لذا تسود نظريات في العالم الآخر، تفرض تجديد مدراء الشركات كل خمس سنوات، تحقيقا لمفهوم القيادة، أو "الليدرشيب"، وبحثا عن النجاعة، ذلك أن من يقود فريقا عليه أن يكون مماثلا لقواعده، من حيث التفكير والسن والسلوك والخطاب، حتى يوافق شنّ طبقة، فيسهل التعرّف ويحدث المثال.
لا يمكن لمداومات انتخابية يجتمع فيها كل من هب ودبّ، من ذوي السوابق المصنفة في خانات النطيحة والمتردية وما أكل السبع، أن تكون واجهة إغراء لأي كان، لا بل إنها تصبح عوامل طرد ونحس، ويستحيل مثلما رأينا أن يكون أرباب جمعيات مدنية سيئو السمعة الشعبية، ومن مخلفات العهود السابقة، فطاحل مرافعات مثالية من أجل رفع نسب المشاركة والانخراط فيها، فالتاجر السيئ لا يمكن أن يبيع سلعة حتى لو كانت جيدة.
إننا ندس رؤوسنا في التراب مثل حيوان النعامة إذا ما اعتقدنا أن الأحزاب التقليدية، يمكنها أن تكون قاطرة كلاسيكية لقيادة عربات تشتغل بالنظام الرقمي
خلال الانتخابات الفرنسية الأخيرة حقّق الشاب جوردان بارديلا نتائج لافتة لأكثر اليمنيين تطرفًا، عبر حملة رقمية اتخذت من تيك توك منصة جذبت فئات عريضة من الأجيال الفرنسية الجديدة، فيما لا يزال باعة الحملات الانتخابية عندنا يخاطبون جمهورًا غائبًا عن الواقع، يمضي حياته الحقيقية في العالم الافتراضي، فبدا المشهد كما لو أنه تلك الإذاعة التي ظلت تبث برنامجًا مناهضًا للإمبريالية في الثانية صباحًا، حتى أن مدرسًا مختصًا عدّه أحسن مثال عن سوء الخطاب الإعلامي غير المؤثر قائلًا:" إن الإمبريالية تكون نائمة ساعة ما يبث ذلك البرنامج البليد".