الحاجة وإعالة الأسرة والتفكك الأسري وغيرها من الأسباب دفعت بالكثيرين من الأطفال الجزائريين إلى "وداع" مقاعد الدراسة دون رجعة في ظاهرة التسرب المدرسي التي اجتاحت مدارس الجزائر. فكثيرون من هؤلاء الأطفال يتم استغلالهم في الحقول والمزارع المترامية الأطراف في سهول "المتيجة" (شمال الجزائر)، والكثيرون منهم ينتظرون آخر اليوم لأخذ الأجرة، التي تنزع عنهم مصاعب الحياة. يقول مولود (13 سنة) لـ"ألترا صوت" إنه عانى كثيرًا في أسرته، باعتباره ضحية طلاق الأبوين. حيث عادت والدته إلى بيت أهلها في ظروف صعبة جدًا. كان عمره وقتها أربع سنوات، لم يعرف طعم النوم والأكل العادي، كما لم يعرف معنى اللعب برفقة جيرانه وزملائه في الدراسة. وحتى لم يعرف معنى لألبسة العيد، حيث واجه الكثير من الصعوبات، واضطر إلى أن يلحق آخرين في مسلسل التسرب المدرسي الذي يبدو أنه لن ينتهي قريبًا في مدارس الجزائر.
التفكك الأسري والحاجة والطلاق أهم أسباب التسرب المدرسي في الجزائر
مارس أهل الوالدة عليه وعلى أشقائه قمعًا من نوع آخر، يقول: "يشيرون إلي وإلى إخوتي بأننا ضيف ثقيل عليهم. وأننا عبء جديد على الأهل، من أخوال وجد وجدة". يواصل مولود حديثه بحزن، "وقتها لم أعرف أن والدي قد طلق أمي إلى غاية وفاته، أي بعد ثلاث سنوات ونصف من الغربة داخل بيت أهل والدتي"، مضيفًا: "توفي والدي الذي كان يرسل إلينا حفنة من المال، فخرجت والدتي للعمل كمنظفة في إحدى مستشفيات المدينة، ورغم أنها تجني مالًا إلا أنه لا يكفي لسد حاجياتنا نحن الثلاثة. حيث الجميع يزاول دراسته بالإضافة إلى مصاريف يومية من بينها الأكل والعلاج واللباس وغيرها من الحاجيات". وهنا يجد مولود نفسه مضطرًا للعمل في أوقات نهاية الأسبوع أو العطل السنوية وحتى خارج أوقات الدراسة.
الظروف تتعقد في أسرة الصغير مولود وتتضاعف المشاكل بين الأسرة الكبيرة والصغيرة، ليصبح تفكيره منصبًا في كيفية الحصول على المال فقط وإعالة أسرته لأنه الأكبر، حيث تضحي قضية التسرب المدرسي هنا أهون ثقلًا في نظر البعض مقارنة بسواها. فهذه الظروف هي التي جعلته يرسب ثلاث مرات في الدراسة. ويتم طرده نهائيًا من المدرسة، وها هو اليوم يشتغل "أي عمل" من أجل الحصول على المال. وقصة مولود هي قصة العشرات من التلاميذ الذين ودعوا مقاعد الدراسة لظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة. الكثيرون منهم ضحايا تفكك أسري مثلما يقول السعيد (11 سنة) أيضًا، فهو صار يعيش خارج البيت بسبب طلاق الوالدين وتزوج كليهما بعد الطلاق. صار يعيش بينهما، فلا زوج الأم رحمه ولا زوجة الأب رحمته، وبما أن التسرب المدرسي لا يلقى متابعة الجهات الرسمية، كانت المدرسة هي الأخرى لعنة عليه.
اقرأ/ي أيضًا: ما لا يسعك جهله عن التعليم المنزلي
يشرح السعيد، الذي باتت تلك الأرض مهربه، وهو يشير إلى تلك المساحات الشاسعة من الأراضي، يشتغل هنا ويبيت متنقلًا بين بيت الجد والخال والعم وأحيانًا في الشارع. والدراسة بالنسبة للسعيد صارت حلمًا صعب المنال، كثيرًا ما كان يتغيب عن الدروس وفي النهاية قرر عدم العودة إليها. فهو الآن يبحث عن مهرب ينقذه من ظلم الوالدين.
في مساحة زراعية شرق الجزائر، يشتغل عشرات الشباب والأطفال في قطف العنب والبرتقال وقلع البطاطا. عمل مضنٍ لكنه يستقطب الكثيرين خاصة أطفال لم تتجاوز أعمارهم العشر سنوات، حيث اختار كل واحد منهم الحصول على مبلغ مالي لإعالة الأسرة بعد التسرب من المدرسة، هكذا رد جمال بوحوس على سؤال "ألترا صوت" بخصوص العمال الذين يشغلهم في أملاكه من أراضٍ فلاحية، بولاية بومرداس 35 كيلومترًا شرقي العاصمة الجزائرية. يقوم جمال بتشغيل العشرات من أبناء مدينته بودواو والناصرية في مختلف فصول قطف الفواكه والخضر، غير آبه بمشكلة التسرب المدرسي للأطفال، لأنه يشعر بأنه يساعدهم في توظيفه لهم.
"الكثيرون يرون الدراسة طريقًا صعبًا، بالنظر إلى كونها لا تضمن عيشًا طيبًا أو وظيفة بعد نهاية الدراسات العليا، هذه فكرة تخمرت في أذهان العديد ممن خرجوا من المدارس في وقت مبكر والنجاح بالنسبة لهم هو الحصول على عمل ومدخول مادي"، يقول جمال الدين، حيث فشل في إكمال دراسته بالثانوية، مقتنعًا بأن الدراسة لا فائدة منها من خلال تجارب المتخرجين من الجامعات الذين وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل.
أسباب التسرب المدرسي
ونشر المرصد الجزائري لحماية الطفولة دراسة عن التسرب المدرسي كشفت أن حوالي 200 ألف تلميذ تسربوا من المدارس بأطوارها الثلاثة، سنويًا وهو رقم مخيف بالنظر إلى الأسباب التي ذكرتها الدراسة حول التسرب المدرسي والتي تعددت بين أسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية أيضًا.
200 ألف تلميذ تسربوا من مدارسهم في الجزائر حسب دراسة للمرصد الجزائري لحماية الطفولة
وأكدت الأستاذة في علم النفس التربوي عائشة بلمدان أن الخروج إلى سوق العمل لإنقاذ الأسرة، من طرف أحد الأطفال، هو من أسباب التسرب المدرسي، وعامل قوي يدفع أطفالًا في عمر الزهور إلى "حرق مرحلة" طويلة من سنهم حيث يرى الطفل نفسه رجل البيت ومعيله في غياب الأب غالبًا، مضيفة أن "ضحايا الطلاق كثيرًا ما يختارون العمل على متابعة الدراسة". كما شددت على أن أسبابًا أخرى تدفع إلى التسرب المدرسي أهمها الخلافات بين الزوجين أمام الأبناء وتأثر الأبناء بتلك الخلافات وغياب المتابعة من الآباء في ظل هذا الوضع السيئ داخل الأسرة، إضافة إلى تأثير المنحرفين في الأطفال الصغار وتدهور الوضع الاقتصادي للأسرة التي لا تتمكن من دفع مصاريف الدراسة.
"كثيرًا ما يؤثر العقاب النفسي والبدني داخل المدرسة ويكون أحد عوامل نفور الأطفال من الدراسة"، يقول عضو الاتحاد الوطني لعمال التربية نور الدين بقاس في تصريح لـ"ألترا صوت" حول التسرب المدرسي. ويضيف أن "الأساتذة أيضًا لهم دور في ربط واستقطاب التلاميذ بالتحصيل التربوي والعلمي والمعرفي"، كما أن شتى أنواع العقاب قد تدفع بالعشرات من التلاميذ إلى الابتعاد شيئًا فشيئًا عن الدراسة، بل وفي الغالب تكون من أسباب التسرب المدرسي، فضلًا عن أسباب أخرى أهمها ضعف القدرات العقلية للتلاميذ وخوف التلاميذ من الامتحانات وكذا وجود تكتلات بين التلاميذ حسب الأحياء السكنية وهو ما يضعف التحصيل الدراسي للتلميذ.
وأصر العديد من الأساتذة على ضرورة توفير مرشد تربوي في المدارس، فضلًا عن مختصين اجتماعيين ونفسانيين وهذا لتفعيل دورهم في معالجة بعض الحالات ومساعدة التلاميذ والطلبة لحل مشاكلهم ومعالجة مشكلة التسرب المدرسي. حيث كشفت المختصة الاجتماعية نورية زعرور أن "دور المرشدين في المدارس من شأنه أن ينقص من حدة التسرب المدرسي"، موضحة من خلال عملها في المؤسسات التربوية أن دور المرشدين يتمثل في مساعدة التلاميذ على تجاوز بعض المشكلات التي تعيقهم على متابعة الدراسة وإنقاذهم من وحل المخدرات والانحراف.
اقرأ/ي أيضًا: