18-أكتوبر-2017

الحافلة الجزائرية تتحول إلى عالم ثري بالقصص والنقاشات (نجيب بوزناد)

قد تجد نفسك فجأة غارقاً في صلب موضوع عن السياسة أو الرياضة أو أي شأن من شؤون الحياة مع شخص لا تعرفه يقاسمك مكانًا داخل حافلة نقل عمومي، أو تجد نفسك جزءًا من جدل حول نقطة ما مع أشخاص لاقاك قدرك معهم ذات صباح وأنت تستقل الحافلة متوجهًا لعملك، فالجزائري بطبعه ينزع نحو التحدث مع الغرباء وتبادل الآراء ووجهات النظر معهم خاصة وأن يوميات البلد صارت مادة دسمة للقيل والقال، تلك الشحنة التي يكتنزها الجزائري داخله لا تفرغ إلا في أماكن ثلاثة، المقهى والملعب وحافلات النقل العمومي.

في الجزائر صارت الحافلة أشبه بمقهى متنقل يتبادل فيه الناس الأفكار والآراء، ومنهم من يجاهر بصوت مسموع غير مبال بخصوصية المكان

صار الصباح الجزائري مرتبطًا بالزحام والاختناق المروري، فلقد ساهمت عدة متراكمات في تكوين شخصية جزائرية ذات مزاج سيئ صباحًا، فمن المعتاد أن تسمع الشكاوى في حافلات النقل مع ساعات الصبح الأولى، فقلب الجزائري وروحه صارت تمامًا كحال البلد، تحت ضغط دائم وانتظار لا ينتهي، ففي الجزائر العاصمة مثلًا، ستستغرق قرابة العشر دقائق كي تقطع كيلومترًا واحدًا بسيارتك صباحًا، أما من حتمت عليه ظروفه ولم يمتلك سيارة خاصة واهتدى لوسائل النقل التقليدية، عمومية أو خاصة، فإنه "مبتلى"، فعليه النهوض على الساعة الخامسة إن كان دوامه يبدأ على الثامنة صباحًا.

 

في الجزائر صارت الحافلة أشبه بمقهى متنقل يتبادل فيه الناس الأفكار والآراء، منهم من يجاهر بصوت مسموع وكأنه يخطب غير مبال بذلك الذي يكمل نومه في الصف الأخير من المقعد، كبار السن يروون قصص الأمس الجميل وكيف كانت الجزائر "زمن النية" والقلب الصافي وكيف استحالت اليوم، قبل أن يكمل شيخ كلامه، يبادره أحد الشباب بجواب معتاد "بكري كان كلشي رخيص"، لقد دفع غلاء المعيشة الجزائريين إلى تدبر حلول أخرى فمنهم من يمتهن عملين في آن واحد ومنهم من اهتدى للعمل من منزله خارج الدوام، عكس ما كانت عليه "جزائر ذلك الشيخ" .

جمهور السياسة صار جزءًا لا يتجزأ من ديكور الحافلات الجزائرية، فإن كنت غير مهتم بالأخبار السياسية فإنك قد تلاقي شخصًا يطرب أسماعك بجميع ما تعذر عليك الاطلاع عليك، سيخبرك بالسعر الجديد للبترول وكذا قرارات الوزير الأول، ويسهب محللًا في الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، لقد ولدت الظروف شعبًا يحاول فك شفرات جميع المواضيع، أحاديث الحافلة وحكاياها لا تنتهي، لقد صارت عادة جزائرية بامتياز، علاقات الكثير من الأشخاص بدأت من كرسي حافلة، فما إن يرى الجميع مشهدًا ما أو موقفًا ما يبدؤون في الكلام عنه جماعياً سواء بالسلب أو الإيجاب، لقد صارت دردشات الحافلات في الجزائر سيناريو يومي لمن اعتاد التنقل بها، كرة القدم وأخبارها لها حظ من حديث الحافلة أيضًا بل وتطغى الكرة على مواضيع أخرى أحيانًا فكما قال أحدهم "الجزائر هي بلد الأربعين مليون مدرب".

 

جمهور السياسة صار جزءًا لا يتجزأ من ديكور الحافلات الجزائرية، فإن كنت غير مهتم بالأخبار فإنك قد تلاقي في الحافلة من يعرفك التفاصيل

في الجزائر لا زال قابض الحافلة يزاول عمله، ففي أغلب الخطوط لا تقوم بشراء تذكرتك مسبًقا، بل يأتيك القابض حيث تجلس لتسدد له ثمن تذكرتك، قابض الحافلة هو "صانع اللعب" وقائد السيمفونية، هو أول من ينزل وآخر من يركب، ينادي على الناس وتتوالى أسماء المحطات على لسانه وكأنها أغنية حفظها عن ظهر قلب، يعتبر القابض عنصرًا أهم حتى من سائق الحافلة فهو من يحتك مباشرة بالركاب، ويعاني معهم وسط زحام الحافلة، ففي حافلات الجزائر يستمتع القابض برؤية عدد الواقفين أكثر من الجالسين فيها، فكما يقول الجزائريون "إنه لا يرانا أشخاصًا بل مجرد دنانير".

في السنوات الأخيرة، طفا على السطح معطى جديد في المشهد الجزائري، إنهم المهاجرون الأفارقة الذين هربوا من ويلات الحروب والجوع والمرض طامعين في بلوغ جنة الشمال، أوروبا، هؤلاء صاروا بالعشرات جزءًا من يوميات الحافلة الجزائرية، فتراهم جالسين جنب بعض لا ينبسون ببنت شفة، غالبيتهم بوجوه غير مستيقظة متوجهين للعمل في ورشات البناء، تسمع لكنتهم الإفريقية فقط حين يتكلمون في الهاتف.

وفي بعض الأحيان يطال الصمت ركاب الحافلة حتى يصعد طفل مهاجر صغير يستجدي مالاً محاولًا الكلام بلهجة جزائرية، مستعيرًا بعض الأدعية المتوارثة التي يظهر أن هناك من لقنه إياها كي يثير التعاطف، يسير في رواق الحافلة وهو ينطق القاف كافًا، يطلب من الناس "صدكة".