29-نوفمبر-2018

ارتبطت الحكاية الشعبية لدى محمد طالبي باستمرار الحياة (فيسبوك)

ورثت حكومات الاستقلال في الجزائر، عن فرنسا، مدنًا جاهزةً صُمّمت وفق المخيال الفرنسي. ثمّ أضافت عليها مدنًا جديدة في الجهات الأربع، ممّا خلق جملة من التّحولات في التّفكير والسّلوك لدى المجتمع الجزائري، من غير أن تعمل المنظومات المعنية بالأمر في أوساط الحكومة والمجتمع المدني، على استشراف تلك التّحوّلات ورصد ثمارها ووضع السّياسات النّاجعة لامتصاص السلبيّ منها.

من ثمار التحولات غير المدروسة لما بعد الاستقلال في الجزائر، ابتذال قطاع واسع من الجيل الجديد لكل ما هو تراثيّ

ومن ثمار التحوّلات غير المدروسة لمرحلة الاستقلال الوطنيّ في الجزائر، ابتذال قطاع واسع من الجيل الجديد لكلّ ما هو تراثيّ وربطه بالقدامة والتّخلف، في مقابل الاحتفاء بكلّ ما هو قادم من الفضاء الغربي وربطه بالعصرنة، وهو ما أسّس لجملة من الصّراعات الثقافية والاجتماعية، كما حصل في الحقل اللّغوي، إذ رُبط استعمال اللّغة العربية لدى قطاع واسع من النّخب الثّقافية والسّياسية، بالجوانب الدّينية والتّراثية، فيما احتكرت اللّغة الفرنسيّة تمثيل الحداثة والتقدّم.

اقرأ/ي أيضًا: صدّيق ماحي.. الحكاية كأداة للمقاومة

هنا، صار التباكي على التّراث الجزائري، خاصّة في شقّه المتعلّق بالحكم والأمثال والمحكيات والأساطير والأغاني، وطقوس العادات الاجتماعية الموروثة من ختان وزواج وجنازة وحرث وحصاد وبناء واستقبال مناسبات سنوية، ثقافةً يومية في أكثر من منبر ثقافيّ وإعلامي، من غير مباشرة مشاريع جادّة وفق رؤية واضحة لإعادة إحياء هذا التّراث. وما تمّ إطلاقه منها، مثل تظاهرة "شهر التّراث"، التي أطلقتها الحكومة لتشمل شهر نيسان/أبريل من كلّ سنة، ظلّ يتخبّط في الارتجال والاستعراض، اللّذين أثمرا نفور الجيل الجديد من حيث أريد استقطابه.

وفي ظلّ هذا الواقع، تطوّعت نخبة من الباحثين العصاميين في كثير من الأحيان، لجمع وتدوين وتسجيل وأرشفة التّراث الشّفويّ الجزائريّ في تجلّياته المختلفة، على أمل إنقاذه من التّلف والنّسيان، وتشكيل أرضية خامّ ينطلق منها الباحثون في فرزه وأرشفته ودراسته.

محمد طالبي
محمد طالبي: "أنا شبيه برجل الدّين الذي تحرّكه الغيرة على نصوصه المقدّسة"

من هؤلاء الباحثين العصاميين المتطوّعين، محمد طالبي، المعروف في الأوساط الثقافية والإعلاميّة الجزائريّة بـ"جدّي المخفي"، حيث يلمس كلّ من يلقاه رغبته في أن يسرد عليه حكاية شعبية أو يقدّم له حكمة أو مثلًا، أو يحدّثه عن طقس كان يُقام في مناسبة من المناسبات، "فأنا شبيه برجل الدّين الذي تحرّكه الغيرة على نصوصه المقدّسة، فيعمل على استعراضها على من يرغب ومن لا يرغب في الاستماع إليها"، كما يقول.

ويضيف محمد طالبي لـ"ألترا صوت": "لا يضرّ التّراثَ أن ينساه جيل معيّن، فهو مثل الأحجار الكريمة، قد تُردم لكنّها تظهر لاحقًا، بل يضرّه المتاجرون به وغير الصّادقين في خدمته".

ولد جدّي المخفي عام 1949 في قرية إربيعة التّابعة حاليًا لمحافظة برج بوعريريج، الواقعة على بعد 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة. يقول محمد طالبي: "كبرت في بيئة محتلّة وملزمة بأن تطفئ مصباح الغاز باكرًا، ليخلفه مصباح آخر لم تستطع دوائر الاحتلال الفرنسي أن تتحكّم فيه على مدار 132 سنة، هو مصباح الحكاية، على أفواه الجدّ والجدّة والأب والأمّ والأخ الأكبر والضّيف الطارئ". 

يتعدّى اهتمام محمد طالبي بالتّراث الشفوي والحكاية جمعًا وعرضًا، إلى تدوين الأمثال والحكم والألغاز والألعاب الشّعبية

من هنا إذن ارتبط محمد طالبي بالحكاية الشعبية، وارتبطت لديه باستمرار الحياة، لذا فكما يقول، قرر أن يضع نفسه في خدمها منذ بعد الاستقلال، "خاصة مع تراجع الاهتمام بها، واستبدالها ببدائل فرضتها الفتوحات التكنولوجية الجديدة، على أهمّية هذه البدائل في سياقها، شريطة أن يكون واعيًا ومدروسًا"، كما يقول.

اقرأ/ي أيضًا: كان يا مكان.. حكايات شعبية ضد القهر والاستبداد

ويقرّ "جدّي المخفي" لعمه محمد الصغير طالبي، بالفضل في جعله ينتقل من مقام الاستماع إلى الحكاية الشّعبيّة، إلى مقام روايتها على الآخرين. يقول: "كان عمي حكاواتي القرية، وكان يجمع الحكايات التي يعود بها الحجّاج، الذين يحجّون على أقدامهم، ما يجعل احتكاكهم بالتجمّعات السّكنية المختلفة في تونس وليبيا ومصر والحجاز قويًّا ومطوّلًا"، مضيفًا: "كانت أذني تلتقط بسرعة كلّ ما يحكيه، فأسارع إلى تدوينه حتّى لا يضيع".

تعلم محمد طالبي عن عمه المزاوجة بين فعلي الاستماع والتّدوين في الوقت نفسه: "أنا أجمع بين ثلاث متع متساوية في العمق: متعة أن ألتقط حكاية، ومتعة أن أدوّنها، ومتعة أن أرويها". وهو لا يقف عند الحدود التقليدية الموروثة في عرض الحكاية، ولهذه قصة.

اشتغل محمد طالبي في الإذاعة لعامين، وفيها تعلم تقنيات جديدة في عرض الحكاية. وهكذا فإنه دائمًا "في بحثٍ مستمر عن الجديد في هذا الباب، بما يُمكّن الحكواتيّ من استقطاب أكبر عدد من المستمعين"، كما يقول، مشبهًا الحكواتي بلاعب كرة القدم، "فهو يفقد صلاحيته للّعب بمجرّد أن يتخلّى عن التّدريب وتأهيل الجسد"، على حد تعبيره.

محمد طالي
أودع محمد طالبي (يسار) ما جمعه من تراث إلى المركز الوطني للبحث في ما قبل التّاريخ وعلم الإنسان

وكان محمد طالبي كاتبًا عموميًا، يكتب للنّاس العرائض والرّسائل والوصولات. وكان يستغلّ احتكاكه بهم في جمع ما يُلمّون به من حكايات، مرّاتٍ في عين المكان ومرّاتٍ يتنقّل إلى بيوتهم، إذ كان الجزائريون يتعاملون مع الكاتب العمومي على أنّه فرد من العائلة. يقول: "كثيرًا ما تنازلت عن أجرتي مقابل حكاية يرويها لي الزّبون، إذ كنت أرى أنّ فضل خدمته لي أكبر من فضل خدمتي له. فالكلمات التي كنت أكتبها له في الرّسالة يتلقّاها شخص واحد لا غير، أمّا الكلمات التي يرويها لي، فتصل إلى الآلاف".

وتعدّى اهتمام جدّي المخفي بالتّراث الشفوي والحكاية جمعًا وعرضًا، إلى تدوين الأمثال والحكم والألغاز والألعاب الشّعبية، وما يُقال في المناسبات المختلفة. غير أن كثيرًا ما يقف الأمر عند الجمع والتدوين: "أجد صعوبة في نشرها مكتوبة، بالنّظر إلى غياب مشروع يهتمّ بهذا النّوع من الكتابات، كما فشلت في الوصول إلى باحث متخصّص في الثقافة الشّعبية لوضع ما أملك من مادّة خام في إطارها المنهجي"، مضيفًا بمرارة: "لا أطلب أجرًا أو أشترط أن يُذكر اسمي. ما يهمّني ألا يضيع هذا الإرث، الذي تؤرّقني مسؤوليتي عليه، بحكم أنّه بات في حوزتي".

يجد طالبي صعوبة بالغة في نشر ما جمعه من الأمثال والحكم الشعبية التراثية، لغياب دورال نشر التي تهتم لهذا النوع من الكتابات

نقل محمد طالبي أو جدّي المخفي، تخوّفه من رحيل ما يحوز عليه من كنوز تراثية برحيله، إلى ملتقيات متخصّصة مثل "الأيّام الدّراسية حول اللّعبة الشّعبية في الجزائر وأفريقيا"، وملتقى "المركز الوطني للبحث في ما قبل التّاريخ وعلم الإنسان". يقول: "أجد راحة عميقة كلّما شاركت في ملتقى متخصّص في التراث الشّعبي لأستفيد وأفيد، وكلّما جمعت أحفادي على حكاية تغذّيهم، حتّى باتوا يطلبون منّي ذلك أكثر ممّا يطلبون نقوداً لشراء الحلوى". ويختم: "أحلم بأن يتمكّن الجزائريون والعرب من جعل الحكاية في حكم الحلوى عند صغارهم".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحكواتي في تونس.. فن منسي متجدد

السامر الشعبي في مصر.. حكايات الناس والشوارع