استرجعت الجزائر سيادتها على مبنى الإذاعة والتّلفزيون في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1962، ومنذ ذلك اليوم بقي التلفزيون الحكومي المنبر التلفزيوني الوحيد والمموّل من ضريبة خاصّة يدفعها الجزائريون مع مستحقّات استهلاك الغاز والكهرباء، والتصقت صفة "اليتيمة" به حتى بعد أن صارت له خمس قنوات هي "القناة الأرضية" و"الأمازيغية" و"قناة القرآن" و"قناة الجزائر" الناطقة باللغة الفرنسية و"الثالثة" الموجهة إلى الفضاء العربي.
بعد 2011، سمحت الجزائر بالتعددية في المجال السمعي البصري وظهرت عديد القنوات الخاصة لكنها تعمل للآن دون تنظيم واضح وتثير استياء المثقفين من معظم برامجها
مع موجة الرّبيع العربي عام 2011، رفعت الحكومة الجزائرية حالة الطوارئ، وسمحت بالتعدّدية في مجال السّمعي البصري، من غير أن تصدر قانونًا واضحًا في هذا الباب، ممّا دفع ببعض رجال المال والأعمال ومدراء الجرائد المستقلّة، ذلك أن التعدّدية في مجال الإعلام المكتوب أقرّت قانونيًا مطلع تسعينيات القرن العشرين، إلى بعث قنوات فضائية، لكنها تُعامل في نظر القانون الجزائري على أنها مكاتب لقنوات أجنبية توجد مقرات بثها في دول أخرى.
بعد ستّ سنوات من التّجربة، التي أفرزت قنوات باتت لها شعبية لافتة، مثل قناة "سميرة" المتخصّصة في الطبخ، و"الهدّاف" المتخصصة في الرّياضة، و"الشروق" والنهار" و"دزاير تيفي" و"البلاد" المتخصّصة في الأخبار والحصص السّياسية والاجتماعية، أعلنت الحكومة عن تأسيس هيئة وصفتها بالحرّة هي "سلطة ضبط السّمعي البصري"، ومن مهامها مطابقة ما يُبثّ من طرف هذه القنوات مع قوانين البلاد، وتحديد شروط إطلاق القنوات، بصفتها قنوات متخصّصة في حقل معين مثل الطبخ والرياضة والشباب والثقافة، لكن لا شيء من ذلك تمّ.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة ثقة بين الجزائري وإعلامه
استطاع هذا الواقع التلفزيوني الجديد في الجزائر، أن يكسر هيمنة التلفزيون الحكومي، ويمنح الجزائريين نوافذ بديلة يواكبون من خلالها الأحداث برؤى مختلفة، كما منح للوجوه المعارضة فرصًا لمخاطبة الجزائريين، بعد سنوات من سدّ الشّاشة الرّسمية أمامها. في هذا السياق، يقول المسرحي ماسينيسا قبايلي لـ"الترا صوت" إنه كان، قبل فتح المجال لقنوات محلية جديدة، يلجأ إلى القنوات العربية والفرنسية لمتابعة الأخبار المتعلّقة بالجزائر، "أمّا الآن، فأنا أتابعها من القنوات الخاصّة، رغم ما يسودها من نقائص واختلالات".
ويركز قطاع واسع من المثقفين الجزائريين، في منشوراتهم على صفحاتهم في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وفي مقالاتهم في الجرائد المكتوبة، على ما قال المسرحي ماسينيسا قبايلي، إنها نقائص واختلالات في المادّة التي تقدّمها هذه القنوات، التي يقترب عددها من الخمسين. إلى درجة أن البعض بات يحنّ إلى زمن التلفزيون الحكومي الأحادي قبل سبعة أعوام.
يقول الكاتب والنّاشط خالد بن سكايم لـ"الترا صوت" إن ما يحدث في القنوات الجزائرية ليس حرية تعبير بل هو دكتاتورية إعلامية وسلطة رابعة للنظام، "فلا أحد ينتقد الرئيس بوتفليقة في تلك القنوات، ولا مفكر ينتقد الكهنوت الإسلامي أو حتى الوهابية السّعودية". يسأل: "هل يستطيع فرحات مهنّي أو كمال فخار أو صالح دبّوز وغيرهم من الحقوقيين التحدث في هذه القنوات بحرية؟ أين هي إذًا حرية التعبير؟ في نشرة الأحوال الجوية؟ أم في إشهارات القهوة؟ أم في المواعظ والدروس والفتاوى؟ هناك فرق بين حرية التعبير وتعدد القنوات. لقد وقعنا في الفخ".
اقرأ/ي أيضًا: البرامج الاجتماعية في الجزائر.. بين الأسود والأحمر
وكتب الأديب والأكاديمي سعيد بوطاجين على صفحته في فيسبوك: "أحالتني الحصص والخربشات المتدنية والأشكال السوقية التي قدمتها القنوات الجزائرية خلال شهر رمضان إلى ما قاله لنا قبل سنين الشاعر والمترجم السوداني عبد الرحمن جيلي إنه لما خلق الله السوفييت قال لهم تكلموا بالروسية، ولما خلق الأمريكيين قال لهم تكلموا بالإنجليزية، ولما خلق الجزائريين قال لهم تكلموا كما شئتم". يعقب سعيد بوطاجين: "لم يخطىء الشاعر. أصبح التلفزيون حانة كبيرة ونسي وظيفته الحقيقية المتمثلة في ترقية اللسان والجمال والأخلاق والمجتمع. لقد أصبحنا نحنّ إلى اليتيمة".
ووصل الأمر بالكاتب والمدوّن مصطفى بونيف إلى أن يدعو إلى مقاطعة القنوات الخاصّة. يقول: "لنقم بدعم حملة مقاطعة جماعية لكل القنوات الجزائرية، والتحسيس بذلك.. رداءة ما يُبث طيلة اليوم غطّى على البرامج الجادّة". يختم مصطفى بونيف منشوره في فيسبوك: "دون تشهير أو سبّ أو شتائم. احذفوا الفضائيات الجزائرية وشاهدوا العالم. تمتعوا ومتعوا عقولكم وأبصاركم".
ويرفض الناشط الثّقافي عبد الحميد براهيمي النظرة الإلغائية، التي ينظر بها قطاع واسع من المثقفين الجزائريين إلى هذه القنوات، "فهي جديرة بالتّشجيع والمرافقة حتى يقوى عودها، وإنه من المخلّ بحياء المثقف الحرّ أن يتمنّى عودة الأحادية التلفزيونية انطلاقًا من بعض ما تتصف به هذه القنوات من نقائص". يضيف محدّث "الترا صوت": "أدعو القائمين على هذه القنوات إلى أن ينفتحوا على المدن البعيدة عن العاصمة، وأن يستعينوا بكفاءات حقيقية، وأن يوسّعوا الحجم السّاعي المخصّص للثقافة".
بينما ينادي البعض في الجزائر بمقاطعة القنوات الخاصة، يعتبر آخرون أن التوجه الأفضل هو تشجيع هذه القنوات ومحاولة تطوير منتجها بدل العودة للصوت الواحد
في السّياق، يرى الإعلامي سامي سي يوسف، رئيس التحرير المركزي في قناة "الشروق تي. في": أن هناك تعسفات كثيرة في نظرة المثقفين الجزائريين إلى التجربة التي انطلقت فجأة ومن غير أسس قانونية حتى اليوم، "وفي ظل منظومة إشهارية تقوم على الاحتكار الحكومي، مما جعل القدرة المالية لكثير من القنوات أقرب إلى العجز منها إلى الاستطاعة، مع ذلك استطاع قطاع واسع من هذه القنوات، أن يستقطب جمهورًا كبيرًا ويساهم في صناعة رأي عام جديد ويمارس نوعًا من الضغط على المؤسسات الحكومية ويبرز كثيرًا من المواهب والطاقات الشبابية في المجالات المختلفة".
ويتوجّه محدّث "الترا صوت" بالسّؤال إلى المثقفين الجزائريين: "هل مارستم دوركم كنخبة مثقفة في الضّغط على الحكومة لتكرّس واقعًا إعلاميًا حرًّا ومفتوحًا ومواكبًا لتطلعات الشّعب؟ هل توجهتم إلى هذه القنوات باقتراحات وأفكار تصبّ في ترشيد برامجها وتعميق رؤاها؟ أليس دور المثقف الحقيقي أن يقدّم الأفكار والاقتراحات؟ هل كنتم إيجابيين وعميقين ومتحدّثين جيدين، باستناء بعضكم، في المرّات التي استضافتكم فيها هذه القنوات؟". يختم: "لا تطالبوا شطرًا من المنظومة الوطنية العامة بأن يكون استثناءً في ظلّ مرضها العام".
وفي انتظار التّحرير المالي والسّياسي التّام لقطاع السّمعي البصري في الجزائر، وبرمجته على المنافسة الحقيقية، يبقى المشاهد الجزائري إمّا خاضعًا للأمر الواقع، وإمّا لاجئًا إلى القنوات الأجنبية، والتي لا يتوفر معظمها على مكاتب معتمدة في الداخل الجزائري، بالنظر إلى حساسية الحكومة من الإعلام الأجنبي.
اقرأ/ي أيضًا:
التلفزيون الحكومي يُرعب الجزائريين.. قد تعود العشرية السوداء!