يبدو أن تسمية حساب أحدنا في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بالجدار، هي امتداد للجدار الواقعي الذي نتكئ عليه ونكتب ما ظهر لنا أن نكتبه من شعارات ومواقف وعبارات، تتميز بقصرها وكثافتها وتحللها من أي رقابة سياسية واجتماعية وأمنية، وقلما تحمل توقيعنا أو ما يشير إلى هويتنا، فتتحول إلى وثيقة على المرحلة.
لجأ الجزائريون للكتابات الحائطية خلال الفترة الإستعمارية الفرنسية كوجه من وجوه المقاومة الشعبية
ولهذه الكتابات التي يتعاطى معها الباحثون في الاتصال وعلم النفس والأمن والاجتماع بصفتها أحد المداخل لدراسة المزاج العام للمجتمع الذي تنتشر داخله، تاريخ في الفضاء الجزائري، يعود إلى الفترة الاستعمارية الفرنسية، حيث كانت تشكل أحد وجوه المقاومة الشعبية، عادة ما كانت تكتب باللغة الفرنسية حتى يفهمها الطرف الموجهة إليه، وكان القضاء الفرنسي يحاكم كاتبيها من الجزائريين، بتهمة التحريض على زعزعة الأمن العام والإساءة إلى رموز الدولة الفرنسية.
اقرأ/ي أيضًا: جدران حلب.. حكاية البريد والساعي
بعد الاستقلال الوطني عام 1962، باتت سلوكًا محتشمًا، وما وجد منها كان منسجمًا مع الخيارات السياسية العامة، من ذلك "الاشتراكية خيار لا رجعة فيه" و"تأميم المحروقات خيار الشعب والشهداء"، ما عدا مفاصل معينة شهدت صراعًا بين أجنحة الحكم. غير أنها، بعد رحيل الرئيس هواري بومدين نهاية سبعينيات القرن العشرين، ومجيئ الرئيس الشاذلي بن جديد المعروف بتسامحه مع حرية التعبير، انتعشت بشكل مكثف، وتوجهت نحو تطلع الإنسان الجزائري إلى أن يعيش حياته بعيدًا عن التسخير السياسي، وحدث ذلك بالموازاة مع استفحال أغنية الراي، ذات النزعة التمردية على القوالب بكل أشكالها.
غير أن الحرية المطلقة التي عرفها الشارع الجزائري، بعد إقرار التعددية الحزبية عام 1989، إلى غاية توقيف المسار الانتخابي عام 1992، جعل هذه الكتابات تنتقل من الجدران إلى اللافتات المحمولة في المظاهرات والتظاهرات التي أصبحت يومها النشاط الوحيد للجزائريين، خاصة أنصار "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي تم حلها فيما بعد، وهو ما كان مقدمة للعنف الجماعي، طيلة عشرية من الزمن.
في هذه السنوات التي يصلح عنوان فيلم محمد الأخضر حامينة "سنين الجمر" عنواناً لها، ازدحم الجدار الجزائري بالشعارات المناهضة للنظام، بحجة أنه أجهض إرادة الشعب، والشعارات المضادة التي تثمن قرار توقيف المسار الانتخابي، وتدعم مساعي الجيش الوطني الشعبي.
مع مجيئ الرئيس الحالي عام 1999، أي أن الطفل الذي ولد يومها سيصبح ناخبًا في التشريعيات التي ستجري بعد أسابيع قليلة، اختلط السياسي بالاقتصادي والفني والاجتماعي والرياضي والجنسي، في هذه الكتابات. يقول عبد الله بن مهل، الطالب في كلية علوم الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر، إن مرد هذا التداخل في الاهتمامات هو فقدان المرحلة لهويتها في المجالات كلها، "إذ بات الشارع الجزائري بلا مطلب جماعي يوحده، فهم الحاكم أن يبقى في السلطة، وهم المواطن أن يغرق في ذاتيته، بعد يأسه من التغيير عن طريق الاحتجاج والانتخاب، في ظل خوفه من العودة إلى دائرة العنف الذي جرب ويلاتها".
تتنوع مواضيع وتعابير الكتابات الحائطية في الجزائر اليوم حيث صار الشارع بلا مطلب جماعي يوحده وغرق كل مواطن في ذاتيته
في المدن الكبرى مثل عنابة وقسنطينة وسطيف وبجاية والجزائر العاصمة ووهران، يكفي أن تمد عينيك إلى ما يصادفك من الشارع، لتواجهك كتابات مختلفة لم يفرق أصحابها بين جدار بيت وجدار مؤسسة عمومية، فالجدران كلها باتت صالحة للتعبير، وهذا وجه آخر من أوجه التداخل. وإذا استبعدنا الكتابات التوجيهية والإشهارية، من قبيل "لا ترموا الأوساخ هنا" أو "ممنوع التبول" أو "انتخب هذا الحزب" أو "هنا تباع كباش العيد"، لأنها ذات رسالة محدودة، فإن الرسائل التي تعبر عن واقع الشباب تأتي في الصدارة.
اقرأ/ي أيضًا: الثورة والجرافيتي.. ذاكرة للحب والشهداء
نقرأ في مدينة قسنطينة شرقاً هذه المقولة "من الصعب أن تعيش في وطن أجمل ما فيه الحلم بمغادرته"، وفي مدينة المسيلة، وسط، "رانا تعبنا يا غاشينا"، أي "لقد تعبنا يا أهلنا" ، وفي مدينة حمام بوحجر غربًا "خذوا البترول واتركوا لنا الوطن"، وفي مدينة بشار جنوبًا "أين أنتم يا مسؤولين؟"، وكلها شعارات، بحسب سعيد ملاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة المسيلة، "تشير إلى أن هناك جيلًا بات يشعر بالاختناق في فضاء جزائري لا يراعي تطلعاته، مع تردده في اتخاذ أي خطوة باتجاه الثورة على الوضع، خوفاً من الوقوع في الخراب، بالنظر إلى ما يراه عند جيرانه العرب، فلم يبق له حل واحد إلا الحلم بالهجرة".
سابقًا، كانت الكتابات ذات البعد الجنسي مقصورة على جدران الفضاءات المغلقة، خاصة المراحيض العمومية، بما فيها مراحيض المساجد، أما اليوم، فقد بدأت تعلن عن نفسها، بخروج بعضها إلى الجدران الخارجية، من ذلك المقولة التي نقرأها في الجزائر العاصمة باللغة الفرنسية "لسنا شواذًا جنسيًا، نحن بشر مثلكم"، "وهي دلالة على أن هناك واقعًا مسكوتًا عنه، يشكل المثليون فيه حساسية خنقت في ظروف معينة، لكنها بدأت تستجمع قواها وتعلن عن حقها في الوجود"، يقول الشاب شفيق. ن.
والسائد أن الشاب هو من ينبري لكتابة هذه الشعارات والمواقف على الجدران، غير أننا صادفنا كتابات في مدينة وهران، 500 كيلومتر غربًا، يظهر من خلال الضمير المستعمل فيها، المتكلم المؤنث، أنها كتبت بيد فتاة أو برغبة منها، من ذلك "أنا امرأة لن تنسى أبدًا"، و"لماذا ترون جسدي لا عقلي؟". يقول خريج جامعة وهران عبد الغني عبد الجبار: "لقد ولى الزمن الذي يعبر فيه الرجل بالنيابة عن المرأة، وجاء زمن تتولى فيه التعبير عن نفسها بنفسها، وهيمنتها على سوق العمل والدراسة دليل على ذلك".
بعد خروج الفريق الوطني لكرة القدم من منافسات كأس أمم أفريقيا في الغابون مؤخرًا، بكل ما خلفه من تذمر شعبي من ذلك، وقف "الترا صوت" على مشهد حي لنخبة من الشباب في مدينة بودواو، 38 كيلومترًا شرق الجزائر العاصمة، يكتبون فيه شعارات مضادة لرئيس الاتحادية الجزائرية لكرة القدم والمدرب الفرنسي. سألناهم عن خلفية اللجوء إلى الجدران، فقالوا إنها الفضاء الوحيد الذي لا يصادر أفكارهم، "أعطنا منبرًا واحدًا لا يمارس معنا المقص، وسنترك الجدران ترتاح من كتاباتنا".
في حديث مع عمال النظافة في مدينة معسكر، 400 كيلومتر غربًا، عرفنا أن من بين مهامهم محو الكتابات الخادشة للحياء العام والمضادة لرموز الدولة، "يحدث ذلك ليلاً حتى لا نثير الانتباه، ونصادف أحيانًا شعارات صادمة، نمحوها من غير أن ننظر إلى بعضنا، لأنها تستعمل قاموساً موغلا في البذاءة". يضيف أحدهم: "قد يتحول الأمر إلى لعبة القط والفأر بيننا وبين كاتبي هذه الأمور، إذ نمحوها ليلاً، فنجدهم قد كتبوها من جديد في الصباح".
اقرأ/ي أيضًا: