30-أبريل-2024
رياضة ثاكورث في منطقة الأوراس

رياضة ثاكورث في منطقة الأوراس

في مستهل عيد الربيع، أو " تافسوت"، ببلدة منعة، جنوب شرق ولاية باتنة، شرقي الجزائر، تعلق النساء الزرابي والمنسوجات الملونة فوق جدران بيوت المدينة العتيقة، ثم يخرج الأهالي منتجاتهم المنزلية والغذائية أمام العتبات ليتناولها المارة، تذوقا لفأل الفصل المزهر، قبل أن يترجلوا موكبا يعبر أزقة المدينة ذات الثمانية قرون.

ترتبط هذه الرياضة بعيد الربيع كما لو أنها ذروة احتفالاته، على الرغم من أنها تظهر بمناطق معينة، في مواسم ينّاير والمولد النبوي

 يتقدم السلسلة البشرية عجائز يحملن فوق ظهورهن كومة من الأغصان الغضة وأوراق الأشجار الخضراء، لتعلق لاحقا، على الأبواب تيمنا بالطبيعة المتجددة والولاّدة،وختاما يحطون الرحال في ساحة على مشارف البلدة، تأهبا لحضور مباراة حامية الوطيس في لعبة "ثاكورث"، التي ترتقي رويدا رويدا نحو الشكل الفرجوي التام بالتشجيع والهتاف والمرح والدعابة، كما لو أنها جولة من جولات رياضتي "الهوكي" و"البولو" الحديثتين.

نقيشة الطاسيلي

ترتبط هذه الرياضة بعيد الربيع كما لو أنها ذروة احتفالاته، على الرغم من أنها تظهر بمناطق معينة، في مواسم ينّاير والمولد النبوي، وفي هذا الصدد يقول الباحث محمد الصالح لونيسي في مؤلفه روائع الأدب الأوراسي: " تلعب ثاكورت في أولى أيام الربيع، أي عنداستقرار المناخ المعتدل. يستعمل اللاعبون عصيا معقوفة الشكل، تصنع في العادة من خشب شجرة البلوط التي لا تنكسر. تسمى هذه العصي "إيقبالن" أما الكرة التي تكون أكبر من قبضة اليد قليلا فتنحت من خشب أخضر، كي تخلف ساعة قذفها صفيرا يكشف لك مهارة الرماة".

7

 أما الإعلامية والباحثة حميدة شوشان، التي أنتجت بحثا أكاديميا حول الألعاب التقليدية، توج بجائزة رئيس الجمهورية، فتقول لـ"الترا جزائر": " تمارس هذه اللعبة في مناطق عدة من الجزائر، ودول شمال أفريقيا، خلال المناسبات السعيدة، وفي الربيع خاصة، ثم إنهالعبة تتطلب ساحات مستوية وخضراء معشوشبة، وهذا الشرط المناخي والطبيعي لا يتوفر سوى في هذا الفصل البهيج من السنة"

تاريخ هذه الرياضة موغل في القدم بالبلاد الجزائرية، إذ تؤكد شواهد مادية أن عراقتها تعود إلى آلاف السنين. فإلى أقصى الجنوب، حيث أكبر متحف طبيعي مفتوح في العالم، في طاسيلي ناجر، تُبرز رسمة حائطية في كهوف مدينة سيفار ذات الـ 15.000 لوحة فنية، بجلاء رجلين يتنازعان كرة بعصي معقوفة، ما يؤكد أنها اكتست منذ القدم، طابع اللعبة الشعبية لدى حضارات قديمة كانت وراء انتشارها في انحاء متفرقة من أفريقيا، وانتقالها بين أجيال متلاحقة منذ حقبة ترجع لخمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

أهزوجة الربيع

تروج هذه اللعبة أيضا في مناطق بالأطلس الصحراوي، ففي مدينة بوسعادة الواقعة على بعد 250 كلم جنوب العاصمة الجزائر، مورست اللعبة منذ القدم، فأرخت لها لوحة فنية زيتية رسمها الفنان الفرنسي العالمي ناصر الدين إِتيان ديني، خلال إقامته الطويلة التي امتدت على مدار ثلاثة عقود.

تظهر لوحته تلك أطفالاحفاة الأقدام يتبارون بعصي طويلة مصنوعة من الكِرناف وهي أصول سعف النخيل الغليظة، حول كرة فوق رمال الصحراء الذهبية،لكن تلك الرياضة لا تبدو محصورة النطاق في رقعة جغرافية دون غيرها.

4

و يشير الباحث والكاتب، سليم سوهالي، المتخصص في التراث الجزائري، في كتابه الموسوم " فنون من مناطق الأوراس والقبائل وورقلة" إلى ما يلي: " تمارس اللعبة في مناطق عديدة نواحي تندوف، وبسكرة وأولاد جلال، وأمدوكال، والقنطرة خاصةفي موسم المولد النبوي حيث تقام مقابلات بين الحارات.لا تبدأ تلك المباريات سوى بطلقة بارود معلنة انطلاق الجولة للفوز بالكرة".

لشد ّما واكبت هذه الرياضة نصوص غنائية شعبية شفوية، يحتفي فيها الأهالي بثاكورث والربيع معا، إذ يتغنى سكان مناطق أولاد شليح بباتنة، حسب دراسة الأستاذ سوهالي،بهذه اللعبة التي تسمى عندهم ثاقوست،عبر أهزوجة يتردد في إحداها:

آقوس- ن - بوقوس(الكرة عند صاحب الكرة)

أقبّال يحما ذق افوس(العصا الحامية في اليد)

تاكورث ذي بوعروس(لعبة ثاكورت في بوعروس)

 أعمــــــار أبو قنسوس(يا عمار يا ذا الأنف الحاد)

شامـــــة يا شامــــــــة 

ألغـــــاد إ همامــــــة(نادي على همامة)

ثاعنونت ذي ثيرعقاي(قُرصة الكسرة في الحقول الخضراء)

 سي محند يسبوغاي(وسي محمد يصرخ في المدى)

وتقرن كلمات هذه الأغني ةبين عادة ممارسة اللعبة وخروج النساء زرافات ووحدانا، للحقول الخضراء لإعداد كسرة على شكل " قُرصة" أو فطيرة تطهى خصيصا لاستقبال الربيع، تماما مثل فطائر أعياد القيامة والفصح لدى الشعوب الغربية.

تقاليد وقوانين

يخضع نظام اللعبة لمبدأ الفريقين، ويتكون كل فريق من خمسة حتى عشرة لاعبين، ولا عددا محددا على خلاف التكافؤ المطلوب تحقيقا للعدالة والنزاهة في اللعب.

وللتفريق بين لاعبي المجموعتين يشترط حمل شارة، عبر حزامين من لونين مختلفين لكل واحد منهما. يضم كل فريق حارسا يتولى مهمة صد الكرة بعصاه كي لا تلج مرماه الممتد على عدة أمتار وتحده عارضتان.

وكل لاعب مطالب بحمل العصى المعقوفة التي تتم صناعتها من خشب الأشجار أو كِرناف النخيل وتكوى على النار كي تصير ذات انحناء يساعد اللاعبين على حصر الكرة ورميها في مرمى الفريق المنافس، فإن تجاوزت الحارس أحتسب هدفا "إيسوي"، وهكذا تعد النقاط ليعلن المنتصر بعدد الأهداف المسجلة، ثم يكافأ بجائزة متفق عليها على شكل رهان واجب التنفيذ.

أما الكرة المسماة في مناطق بلفظة " الدوخ"، فتصنع بحسب المواد المتوفرة في كل جهة، ففي منطقة توات نواحي أدرار، جنوب غرب الجزائر، تنجز الكرة بليف النخيل، فيما تصنع جنوب الأوراس من قاعدة جذع النخلة وهي ذات شكل دائري، كما قد يلجأ لعلب مصبرات يتم ضغطها بشكل مكور لتكون سريعة الدحرجة، وقد تكوّر من حلفاء ملفوفة في قطعة من الكتان والخيش المشدودين بخيوط أو أسلاك رقيقة.

4

تلامس اللعبة بعضا من قوانين كرتي القدم واليد، فيما يخص استبدال المشاركين، وإمكانية عودة اللاعب لاستئناف المباراة عقب فترة استراحة، أو علاج من كدمة.ويستحسن أن يتحزم اللاعبون برباط لشد الخصر من جهة، وللإمساك بالقندورة و القشابية من جهة أخرى حتى تكون مرتفعة عن القدمين، و لكي تتحرر الساقان خلال الجري و الهرولة و الاحتكاك، فهي تتطلب لياقة و خفة وقوة، قد تعطلها الألبسة الطويلة الساقطة أسفل الرجلين.

تلعب "ثاكورث" بفرق راجلة مثل لعبة الهوكي، كما تلعب أحيانا بامتطاء المتبارين لظهور الخيول لتكون شبيهة برياضة البولو.

حيلة الصلح

تفسر الباحثة حميدة شوشان العلاقة بين هذه اللعبة و الفصل،لـ "الترا جزائر" فتضيف: " تنطوي اللعبة الممارسة في الربيع، على رمزية هي إعلان الفرح وإظهاره ومشاركته مع أفراد المجموعة المحلية، بمناسبة كبرى هي الربيع الذي يعني حسب مدلوله الأمازيغي المشتق من " تافسوت"، إلى فعل يعني تفتح الأوراق وإيناع الأزهار، وهي دلالة واضحة عن الخصوبة والرخاء بعد موسم الشتاء، وتيمنا بالحصاد الوفير في الحقول، والغلال الكبيرة في البساتين".

 بيد أن أبحاثها الميدانية قادتها إلى اكتشاف وظيفي لافت جاءها على لسان شيوخ كبار التقتهم في مناطق عدة. تؤكد، تلك الشهادات الاستقصائية، علاوة على الطقس الربيعي، على أبعاد اجتماعية أخرى، شأنها شأن الألعاب القديمة والحديثة التي تسمى الألعاب المجتمعية، الرامية بالأساس لجبر الشقاق ولململة الشتات، إحقاقا للتشارك العائلي،والوحدة العضوية بين مكونات المجتمع من الباطن.

4

توضح الفكرة: " يعمد البعض إلى تكوين فريق يضم أفرادا متخاصمين، وخلال اللعب سيجد المتشاجرون أنفسهم متعاونين فيما بينهم لدحر الفريق الخصم. في الخضم ستنسى تلك الأحقاد من خلال وظيفة التعاون لتحقيق هدف واحد،فيتقاسمون معا عبر فضيلة التضامن مرارة الخسارة وحلاوة الانتصار، وهي أفضل طريقة لنسيان النزاع والخصومة، من جهة، وحيلة وظيفية مبطنة من جهة أخرى، ترمي لإصلاح ذات البين وتعزيز اللحمة بين الأفراد، وتحقيق مناعة الجماعة".

مباريات النساء

ولعبة الوحدة بين الرجال تقابلها مساواة جندرية بين الذكور والنساء، فهي أيضا رياضة تمارسها النساء دون تحفظ أو تحريم اجتماعي.

تتشكل فرق النساء مثل الرجال تماما، وتخضع من حيث المبدأ العام لنفس القوانين، مثل عدم لمس الكرة بالقدم والذي يعتبر مخالفة تستوجب توقيف اللعب في نقطة معينة ليتناولها الفريق الخصم على سبيل الأفضلية. وفي حين تعطى الانطلاقة للرجال بطلقة بارود فيتسابقون من أجل الفوز بدحرجة الكرة من نقطة المنتصف، يختلف الوضع لدى اللاعبات.

وتوضح محدّثة "الترا جزائر" ذلك: " بالنسبة للنساء، تترأس كل فريق قائدة، مثل كرة القدم تماما، وتسند المهمة للأكبر سنا، كما تشبهها أيضا في القرعة المحددة لصاحب ضربة البداية مثلما يفعل حكام الساحات بقطعة النقد التي تعد قُرعة حظ تحدد البادئ والمرمى المشغول، ففي "ثاكورت" تقوم القائدتان برمي عصيهما في الهواء من منتصف الملعب ليحوز فريق القائدة التي تسقط عصاها على عصى غريمتها، سبق الأفضلية لبدء المباراة".

 أما في حال تسجيل الهدف، فتختتم المتحدثة:" تطلق النسوة المشجعات المصطفات حول ساحتي الحارة أو القرية زغاريد انتصارية مدوية. وهكذا تتقمص هذه اللعبة دور العرس الأكبر في احتفالات أعياد الربيع".