21-أبريل-2024
(الصورة: فيسبوك) شمال ولاية سطيف

(الصورة: فيسبوك) شمال ولاية سطيف

رغم التقلبات الجوية واضطراب الطقس في فترة الربيع، إلا أن عائلات كثيرة اقتنصت الأيام الدافئة خلال أسابيع شهدت ارتفاعًا محسوسًا في درجات الحرارة، لتنفذ خرجاتها إلى البراري للتنزه وقضاء العطل، والأهم في ذلك، أنه يندرج ضمن تقاليد قديمة تدأب عليها العائلات الجزائرية منذ عقود طويلة من الزمن، وهي الاحتفال بفصل الربيع.

في عدة مناطق بولاية سطيف وبرج بوعريريج، يقدم الميسورون من الناس لفقراء المنطقة معونة في فصل الربيع تسمى بـ "عولة الربيع" وهي عبارة عن قفة مملوءة بالكثير من المواد الأساسية كالسميد والزيت والحلويات

يحمل فصل الربيع الكثير من المميزات، لذلك فهو يحظى باهتمام الجزائريين في العديد من المدن والقرى، إذ مازالت العائلات تحتفل بقدوم الربيع لأنه يرمز للوفرة والخير بعد الأجواء القاسية في الشتاء، حيث تتفتح الأزهار وتنمو الثمار معلنة عن نهاية الشتاء، ويعتبر ذلك عند كثيرين عيدًا آخر يضاف إلى مختلف الأعياد والمواسم التي تحتفي بها الأسر.

الربيع

ولأن الاحتفال بالربيع، باعث على الفرح مع تفتح الأزهار وكثرة المروج والأشجار المثمرة، يعتبر الاحتفال بالربيع في منطقة "زارزة" بولاية ميلة شرق الجزائر جزءًا من الاحتفالات الشعبية في شكل طقوس يكن لها المجتمع مكانة خاصة.

فرحة الموسم

يمثل موسم الربيع الكثير من المعاني لدى سكان مناطق عدة في الجزائر، إذ تعتبر السيدة سامية بوذراع (59 سنة) أن الاحتفال بـ "قدوم الربيع" أو كما يطلق عليه بـ"شاو الربيع" في مناطق أخرى كسطيف وبرج بوعريريج، ممارسة اجتماعية تكتسي بالطابع الرمزي المرتبط أساسًا بالطبيعة.

ومن تلك العادات المتجذرة في وسط العائلات في الشرق الجزائري، تضيف بوذراع ، صناعة  حلويات" البْرَاجْ" أو "المْبَرّجَة"، لأنها ذات مذاق حلو وتُؤذن بدخول الربيع، إذ لا يخلو أي بيت من هذه الحلويات، موضحة أنها تصنع من السميد الأحرش والزيت والتمر، كما أن اليوم الذي تصنع فيه هذه الحلوى التقليدية يعدّ احتفالًا عارمًا في البيت بل ويتم تناولها مع الحليب أو اللبن كأكلة رئيسية. 

البراج

ولتحضير هذه الحلوى التقليدية، تقوم النساء بخلط الدقيق الخشن أو كما تسمى بـ"الدشيشة" بالماء والملح والزيت، وتقوم بتشكيل العجينة على شكل دائري، وبعدها يتم حسوها بمعجون التمر أو "الغرْس" ثم تقسم إلى شكل هندسي رباعي الأضلاع أو معين، وتتم بعدها عملية الطهي على وعاء مصنوع بالطين يسمى بـ" الطاجين" وتطهى على نار هادئة.

غالبًا ما تعكف الأسر على توزيع "البْرَاجْ" على الجيران في لفتة تصنع التكافل فيما بينهم وإدخال السرور على قلوب الأسر الفقيرة أيضًا، ومشاركتهم فرحة "عيد الربيع".

كما تصنع النساء أيضا ما يسمى بـ "الطمينة" أو "الرّفيس" وهو أيضًا طبقٌ تقليدي، يتم فيه تحميص حبات الدقيق الخشن على النار، حتى يأخذ اللون البني، ويخلط أيضًا مع معجون التمر، ويوضع في قالب بشكل معين أيضًا، ويقدم مع اللبن.

ولأنها عادة جماعية، تعد النساء هذه الحلويات في البيوت ويتم تخزينها لأيام، حتى تكون في المتناول اليومي، كما قالت لـ"الترا جزائر"، وعندما تنفذ يتم تكرار العملية في جو بهيج تجتمع فيه النساء من العائلة لصناعتها.

الرفيس

نزهة كل أسبوع

تنتهز العائلات أيام الجمعة من فصل الربيع، لتحتفل بهذا الموسم، إذ تتوجه العائلات إلى المساحات الخضراء حيث توجد الأشجار والأزهار، ويأخذون معهم الأكمل والفواكه وحلوى " المبّرجة"، في جولة مع الطبيعة تتخللها الأغاني والزغاريد ولعب الأطفال.   

وفوق كل ذلك، فإن عدة محلات لصناعة الحلويات التقليدية، تهتم بطهي وبيع حلوى " البراج"، منذ حلول شهر آذار/ماري إلى غاية شهر حزيران/ جوان، وهي الفترة التي يرتفع الطلب عليها. 

الكثير من العائلات تقدس "موسم الربيع" إذ تخرج في نهاية الأسبوع للحقول والجبال، للاستمتاع بجوِّ الطبيعة الخلاب، كما يعدون الطعام والحلويات والقهوة لقضاء وقت ممتع فيما بينهم.

من جهتها تقول نصيرة دفوس، من منطقة فرجيوة شرق الجزائر، بأنها تنتظر دومًا نهاية الأسبوع لتحتفل بالربيع في أرض أجدادها في منطقة بني قشة، تعبيرًا منها وعائلتها وأبنائها عن الامتنان للأرض التي تجود عليهم بالقمح والزيتون والفول والفواكه، فضلًا عن تلك الأزهار التي يقطفها الأطفال فرحا بالربيع.

الربيع

كما تعكف هذه السيدة على اصطحاب أطفالها في جولة برية عائلية تجتمع فيها العائلات من كل مكان، إذ هناك من يملأ سلال المصنوعة بخشب الدوم مملوءة بـ" البراج" والفواكه، واللبن والكسرة،  بينما يتسابق البعض لركوب الخيول واستعراض قدراتهم في مجال الفروسية.

وتزيد الاحتفالات بالربيع حالة التآزر بين الجزائريين، ففي عديد لمناطق بولاية سطيف وبرج بوعريريج، ويقدم فيها الغني المعونة للفقير وهو ما يسمى بـ" تقديم عولة الربيع" وهي عبارة عن قفة مملوءة بالكثير من المواد الأساسية كالسميد والزيت والحلويات.

كما تحتفل العائلات في منطقة القبائل وسط البلاد بـ"عيد الربيع" ويطلق عليه اسم "ثافوست" باللغة الأمازيغية وتعني "الأوراق" التي ترمز للنباتات وتفتح الأزهار والأشجار المثمرة.

إلى هنا، قول صورية آيت قاسي لـ" الترا جزائر" بأن عادة "ثافوست"تحمل قداسة من حيث الطقوس المصاحبة له، وخصوصًا في ولايات تيزي وزو والبويرة وبجاية، لافتة إلى أن الاحتفالية تنقسم إلى شقين الأولى تتعلق بتحضير الأطباق التقليدية والثانية تتعلق بالترفيه.

الربيع

ومن حيث الأطباق التقليدية فتعد النساء في هذه المناطق مأكولات تقليدية منها "تيكربابين" وهو طبق تقليدي قوامه السميد واللحم والمرق ويضاف له النعناع"، أو طبق " الرفيس" وهو طبق حلو قوامه السميد والعسل، إَضافة إلى طهي الخبز التقليدي الذي يسمّى في منطقة القبائل بـ"المطلوع" وفي منطقة الشرق الجزائري بـ"الكسرة".

ويأخذ الجزء الثاني من الاحتفالية، شكل لعبة تقليدية تسمى بـ"ثاكورث" أو "لعبة الكرة التقليدية"، إذ يتبارى اللاعبون بالكرة والعصي، في أجواء يسودها الفرح إضافة إلى ترديد الأغاني المستلهمة من التراث الأمازيغي، التي ترسم صورة جميلة عن الربيع بمختلف ألوانه.

رمزية الطبيعة المتغيرة

الدافع الأكبر لمثل هذا الاحتفال، متجذر في العديد من المناطق كطقسٍ سنويٍّ، كونه يحمل رمزية كبرى لارتباطه بالبهجة والسعادة واقتناص فرصة اللمة فيما بين العائلات.

وبذلك تمثل هذه الاحتفالات كعادات الشعبية، "ممرا آمنا نحو حياة الوفرة والجمال والألوان التي تعطيها الطبيعة للإنسان بحلول فصل الأزهار والثمار"، إذ يقول المختص في التراث الشعبي كمال فردي من جامعة الجزائر، بأن الاحتفال بالربيع، يشبه كثيرًا بعيد "الناير" المصادف ليوم 12 من شهر كانون الثاني/جانفي من كل سنة، الذي يمثل أيضًا بوابة العام وسنة الخير.

وبخصوص الاحتفال بالربيع، لفت الأستاذ فردي في تصريح لـ " الترا جزائر" بأنه عادة جماعية تبعًا لظروف مشتركة في مجتمع ما ويمارسونها لأن هناك علاقة ثابتة وتكاملية بين الاحتفال بهذا الموسم وارتباط السكان بالأرض التي تجود عليهم بمختلف أنواع الورود والأزهار والنباتات.

وقال فردي إن "العادات الشعبية سلوك مكتسب وينظر إليها بأنها ذات قوة اجتماعية في أي مجتمع يتفاعل فيها الأفراد والجماعات وأصبحت من الموروثات الثقافية التي تنتقل من جيل إلى آخر"، كما أنها مرآة عاكسة لنبض الحياة والآمال وتمثل مخزونا تراثيًا أصيلًا للجزائريين.

وأشار إلى أن مختلف المناطق التي تتميز بالسهول والوديان لديها خصوصية، إذ يشترك الجزائريون في ذلك بتواصلهم الدائم مع الطبيعة وتحويل ذلك إلى فرح بقدوم موسم الربيع.

الربيع بكل ألوانه الزاهية التي نراها في الطبيعة يعتبر مرآة عاكسة لتقلبات الحياة، بين الخريف والشتاء والربيع والصيف، بل هو مرآة عاكسة لما تجود به الطبيعة وفترة مهمة من فترات الحياة طيلة السنة".

محطة تأبى الحزن

اجتماعيًا، يعتبر الاحتفال بفصل الربيع محطة من محطات الفرح التي يمر بها الأفراد، وتنتقل فيها الطبيعة من حال إلى حال، ومن مرحلة إلى أخرى في دورة حياة مستمرة، وتقول الباحثة في علم الاجتماع سميرة بن عزيزة أن هذه الدورة يجتازها الإنسان عبر ممارسات احتفالية قولية أو فعلية وطقوس تحافظ على الذاكرة الشعبية.

الدافع الأكبر لمثل هذا الاحتفال، متجذر في العديد من المناطق كطقسٍ سنويٍّ، كونه يحمل رمزية كبرى لارتباطه بالبهجة والسعادة واقتناص فرصة اللمة فيما بين العائلات

كما تعتبر بن عزيزة في تصريح لـ" الترا جزائر" الاحتفال فعل اجتماعي، لأن العادات الشعبية، عمومًا، تلعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على وحدة المجتمع و تماسكه، وتعكس التضامن فيما بين مكوناته.