انتهج الإنسان منذ القديم عادات تسهل عليه الحياة، كما تكفل بمهام عديدة تخفف عنه عناء العيش الجماعي، وتمنح الراحة لأفراد مجتمعه، وانطلاقا من هذه الفكرة جاءت العديد من المهن التطوعية الفردية التي اشتهرت تاريخيا وبقيت راسخة في الذاكرة الإنسانية، خاصة لدى المسلمين.
ابتُكِرت شخصية "بوطبيلة" أو "المسحراتي" في اللّسان المشرقي مع اختلاف طفيف في المهام، هذه الشخصية التي حملت لقرون على عاتقها عناء إيقاظ النائمين لتناول وجبة السحور
خلال شهر رمضان -على سبيل المثال- ابتُكِرت شخصية "بوطبيلة" أو "المسحراتي" في اللّسان المشرقي مع اختلاف طفيف في المهام، هذه الشخصية التي حملت لقرون على عاتقها عناء إيقاظ النائمين لتناول وجبة السحور وانتظار صلاة الفجر كل ليلة طيلة الشهر الفضيل.
سيرة "بوطبيلة"
تاريخيا، تعود قصة “المسحراتي “حسب الروايات إلى عام 853 ميلادية، في مصر، حيث يحكى أن والي مصر العباسي إسحاق بن عقبة،د كان أول من طاف شوارع مدينة القاهرة في رمضان خلال الفجر لإيقاظ الناس للسحور، كما يروى أنه في خلال فترة حكم الدولة الفاطمية، أمر الحاكم بأمر الله السكان بأن يناموا باكراً بعد صلاة التراويح، وقد كلف جنود جيشه بالمرور على كل المنازل والدقة على أبوابها ليوقظوا المسلمين للسحور، إلى أن تم مع مرور الزمن تعيين رجل معين للقيام بهذه المهمة، أطلق عليه حينها لقب "المسحراتى"، وقد كان يدق الأبواب بعصًا خاصة يحملها قائلاً: "يا أهل الله قوموا للسحور".
يحمل بوطبيلة الذي يطلق عليه هذا الاسم شرق الجزائر، وفي تونس أيضا، في الثقافة الشعبية الجزائرية عدة أسماء، منها أيضا "طبال السحور"، " و”آطبال" لدى الأمازيغ وهو الشخص الذي يؤدي مهنة إضافية أيضاً في بلاد الأمازيغ ومناطق أخرى بعد رمضان، تتمثل في إعلام سكان القرية أو الدشرة بكل الأخبار والإعلانات ومواعيد المناسبات الدينية والفلاحية، الوفيات والأفراح التي تهمهم، كما كان يدعى أيضا بلقب "تقرقيبة" لدى بني توات كما هو مُشاع، ويشتهر الشخص المتكفل بهذه المهمة بصوته القوي وطبله الصغير، كما كان يرتدي قديما زيا خاصا به يميزه عن بقية سكان الحي الذي يقطنه، حتى يتم التعرف عليه إذا ما صادفه أحد عند الفجر وهو يقوم بمهمته المقدسة.
خلال الفترة الاستعمارية، كان "بوطبيلة" علامة تميز طقوس المسلمين الصائمين، إضافة إلى اعتماد السلطات آنذاك عادة ضرب المدافع وقت الإفطار والتي تعود بالأصل إلى عهد سلطان مصر المملوكي خشقدم حسب العديد من الروايات، حيث حرصت فرنسا الاستعمارية آنذاك على إبقائهم لفترة معينة بغية التحايل على السكان المحليين وإيهامهم بأن فرنسا تدعم المسلمين وتقدس طقوسهم الخاصة لتهدئة نزعتهم الثورية ضد الاحتلال، لكن شخصية بوطبيلة حوربت بعد ذلك من طرف الاستعمار وتم منعها لسنوات طويلة، قبل أن تعود بداية من الاستقلال في مناطق ومدن معينة، ثم تتلاشى تدريجيا وتبقى موجودة بشكل ضئيل في بعض الأحياء الشعبية في الجنوب الجزائري.
كان "بوطبيلة" واحدا من أبناء الحي، وغالبا ما يتم اختياره من بين الأشخاص محدودي الدخل لإعانته على الحياة بهذه المهنة الموسمية، كما كان يحفظ كل أسماء أصحاب البيوت من الرجال، حيث يبدأ نشاطه ساعتين قبل الإمساك، لأن العائلات في القديم في أغلبها كانت تفيق باكرا لتحضير وجبة سحور كاملة، مثلها مثل وجبة الإفطار، فكان يطوف الحي وهو يدق طبله الصغير قائلا "نوض اتسحر يا فلان"، وكان يستمر في ذلك كل يوم.
بوطبيلة شرق الجزائر
في شرق الجزائر، وتحديدا في قسنطينة، كان بوطبيلة رجلا ذا قدر لدى الأهالي، حيث كان يحترمه الجميع ويكرمونه من ملذات البيت وحواضره، خاصة من حلوياتهم التقليدية الرمضانية وتلك المخصصة للعيد وبهندامه الخاص وعباراته المعتادة، كان يجوب أحياء المدينة القديمة، وينادي على أهالي البيوت كل باسمه للنهوض من النّوم، وترك الفراش المريح مرافقا نداءه بالتسبيح والأدعية، كما أنه كان يحصل على مكافآت جمة من أرباب البيوت بعد انتهاء مهمته تقديرا له على سهره وعمله على إيقاظ النائمين للسحور والصلاة طيلة شهر كامل.
مهنة "بوطبيلة" عمل إنساني تطوعي
تقول المختصة في التراث الشعبي من جامعة الجزائر سامية حراث في تصريح لألترا جزائر، أنه من غير الممكن تحديد زمن ظهور " بوطبيلة" كموروث شعبي، غير أنه ظهر لحاجة النّاس لأسلوبِ عيشٍ معيّن.
وتضيف المُختصة في حديثها أن التّراث الشّعبي الجزائريّ يزخرُ بالعديد من المهن والحرف الّتي ابتكرها الإنسان لحاجته إليها وتسهيل عيشه، منها الموسمية ومنها ما يؤدّى على مدار السنة.
تؤكد سامية حراث أن صوت "بوطبيلة" يصدح لإيقاظ النيام على وقع نقر طبلة معلقة ومسدودة على الكتفين" كعمل إنساني تطوعي في شهر رمضان.
تاريخيا، يعتبر "بوطبيلة" حسب المختصة، فنانا رمضانيا صاحب جاذبية وتأثير نفسي على وجدان الجزائريين، اختفت عن كثير المناطق، إذ كان معلما من معالم رمضان الرئيسية وما يميزه عن سائر الأيام.
بين "المسحراتي" و "بوطبيلة"
على خلاف المسحراتي المشتقة من "السحور" أي تناول وجبة السحور أي وقت السحر، ومن يتولى هذه مهمة التسحير فهو "المسحراتي" أي المنبه البشري لدخول وقت السحور، ويدعو الناس إلى ترك النوم وتناول الطعام قبل حلول آذان الفجر، في ظل غياب الهاتف والمنبه القديم، فإن "بوطبيلة" أو "الطبال" " صاحب الطبلة" نسبة إلى الطبل الذي يضرب عليه بالعصا المرافق لصوته الشجي من أجل إيقاظ النيام والإعلان عند بداية وقت السحور.
هي واحدة من عادات رمضان الراسخة في التراث الشعبي التي تتوارثها الأجيال، إلا أنها انحسرت رغم أنها تميز الهوية وأساس ثباتها وخصوصيتها، ومن أبرز كلماته وتناغمها مع ضربات الطبل، قوله:" سبحان الله والحمد لله، السحور السحور" و" نوضي يا لالة ما تبقيش بلاش"
أسباب اختفاء"بوطبيلة"
اختفى "بوطبيلة" من الأوساط المحلية لأسباب عديدة، منها تطور المجتمع، وعامل التكنولوجيا الحديثة الذي أُثر سلبا على التراث الشفهي والعادات الشعبية في الجزائر، حيث تنافسها الآن سلطة التكنولوجيا، من خلال الأجهزة الإلكترونية، من منبهات تتكفل بها الشبكة العنكبوتية، وترجع المتحدثة اختفاء " بوطبيلة" أيضا إلى ما يسمى بالزمن الميكانيكي، أي عصر الآلة التي حلت محل الزمن العضوي أو الطبيعي الذي يوليه الإنسان أهمية كبيرة، فضلا عن التطور الاقتصادي والحياة المادية التي غيبت مهن قديمة وأبرزت مهن جديدة حلت فيها الآلة محل الفرد.