08-مايو-2020

الباحث في الأنثربولوجيا إبراهيم بن عرفة (فيسبوك/الترا جزائر)

كانت النسوة قديمًا، يتغنين في السهرات الرمضانية بلعبة تُستحضر فيها الأشعار للتفاؤل بالحظ الجيّد، حيث دأبت الساهرات اللواتي يقطنّ بيوت القصبة العتيقة في العاصمة، على توارث هذه اللعبة القديمة، ليتسلّين بها خلال سهراتهن، وأطلق عليها اسم "البوقالات".

كانت البوقالة مثل أبيات شعرية مهرّبة من الزمن القديم، تسابقت كبيرات العائلة على إتقان قوافيها 

تكوّنت هذه الأحاديث المنتقاة بعنايةٍ ورِقّة، والمُختَلسةِ من بين أردية الحياء والحشمة، من عبارات موزونةٍ ومقفاة، تحمل بين حروفها آمال النسوة وأحلامهن، وخبايا نفوسهن وأسرارهن، إذ كنّ يجلسن حول موائد الشاي والحلويات التقليدية الخاصة بهذا الشهر، لتستعرض المسنات منهن والمتزوّجات قدراتهن على استحضار"الفال" الطيب، والتفنّن في مغازلة مشاعر العازبات اللواتي كن يَتُقنَ جدًا لتلك الأماني البعيدة.

اقرأ/ي  أيضًا:  فنّ أهلّيل.. غرام التصوّف والرّوحانيات الجزائري

كانت البوقالة مثل أبيات شعرية مهرّبة من الزمن القديم، تسابقت كبيرات العائلة على إتقان قوافيها، فهي مفعمة بعبارات الشوق، والولع والفراق، المفخرة، والكبرياء، ومناجاة الأحبة الغائبين، تستمتع بسماعها الحاضرات المتحمّسات الجالسات في تلك القعدات والسهرات، وقد  كن يربطن طرفًا من أثوابهن على شكل عقدة بنِيّة الفرج والفرح، تماما كما يعقدن النية الطيبة في قلوبهن، وينوين خيرًا لشخص ما في قرارتهن، وهكذا تستمر السهرة إلى أوّل الفجر لترحل بعدها كل امرأة وفتاة إلى بيتها وهي تحلم بتحقق ذلك الفأل، واضعة كل الآمال في تحقّقه، وفي الخير الذي يجلبه.

في هذا الموضوع، خصّنا الباحث إبراهيم بن عرفة، بحوار تمحور حول مكانة البوقالة وأثرها في الموروث الشعبي الجزائري، وعن تفاصيل تلك الليالي التي آلت إلى الزوال مع الأسف عبر السنوات، لتتمزق بين فكي التمدن والتحضر.

  • ما قصّة "البوقالة" وكيف انتشرت في الأوساط الشعبية العاصمية؟

تعد البوقالة من أبرز مآثر التراث الشعبي فهي مجال حرّ للإبداع النسوي بامتياز، حيث أبدعن فيه في غياب السلطة الذكورية، والهيمنة التي تحدث عنها بيير بورديو في نظريته الرمزية، وقد عرفت هذه اللعبة التراثية انتشارا واسعًا في الأوساط الحضرية للجزائر قاطبة، ولم يكد يخلو أي مجمع نسوي رمضاني من المناظرات الليلية بالبوقالات.

  • هل يوجد تأريخ جاد لإرث "البوقالة" في التراث الشعبي؟

 لا يوجد تأريخ ثابت يحدّد أقدمية هذا الموروث اللامادي العريق، إلا أنّ أغلب الأسر الجزائرية تحفظه جيلًا بعد جيل، منذ القدم ولا يمكن التأكّد من عدم تحريفه أو إجراء تعديلات عليه من قبل بعض النساء أثناء عملية النقل.

لقد عملت البوقالات على استظهار المشاكل الخاصّة بالنساء وعالجت بعضها وساهمت في تأجيجها أكثر في بعض المواطن الأخرى، لأن السياق الذي تأتي فيه لا يكون دومًا إيجابيًا، فهي في الحقيقة مناظرة نسائية بامتياز.

  • هل كان هناك باحثون اختصوا في تأريخ "البوقالة" وأشعارها؟

أظنّ أن الباحث محمصاجي قدور، المنحدر من إحدى العائلات العريقة بالعاصمة، والتي تربت وترعرعت في قلب القصبة، هو أوّل من بحث في هذا الموضوع أكاديميًا، حيث كان يعد حصصًا قائمة لذاتها حول هذه اللعبة في الإذاعة الجزائرية بداية من مطلع السبعينيات إلى غاية الثمانينات.

حرص الباحث الذي أصدر كتابًا حول هذه اللعبة العام 1989 باللغة الفرنسية بعنوان "لعبة البوقالة" في المساهمة في التعريف بهذه اللعبة.

قيل أن اسم "البوقالة" اشتُقَّ من كلمة البوقال أو "أبوقال" بالأمازيغية، أما في الشرق الجزائري فيُقال بوقالة تسميةً لآنية فخارية مخصّصة للماء أو الحليب.

في ذات السياق، قال الباحث بوزوينة اسماعيل من جامعة تلمسان أيضًا بأن البوقالات هي لعبة أشعار نسائية، تمارَسُ في الجلسات الرمضانية، أما فحواها فهو الحب العفيف وفقدان الحبيب، أمل العودة للبعيد وغيرها..

  • كيف تقام طقوس البوقالة؟

يقول جنفيف خديس، إن هناك اشتراكًا لفظيًا يشمل الشعر مع الإناء المستخدم "أبوقال" للتعرف على الفأل المخصص للفرد الذي لعب، وتعتمد اللعبة في الأصل على ثلاثة مراحل أساسية:

تكون البداية بـ "التبخيرة"، أو مثلما تسميها النسوة وهي البوقال وماء سبع عيون، قبعة (شاشية) شاب عازب من أقرباء إحدى النسوة أو أبنائهن أو شاب يتّفق عليه، إضافة إلى سبعة خيوط من ملابس أرملة، قطع حلي، كانون وفحم بخور معد مسبقًا بالجاوي والعنبر والقصبر والبخور المكّي، وكذلك عيدان سبعة أبواب خشبية خارجية للمنازل. يشبه هذا الطقس طقوس السحر لكنه لا يتعدّى كونه لعبة للتسلية.

تستهل اللعبة بإشعال الكانون ووضع البوقال وسط النسوة العازبات والمتزوّجات، ثم تبدأ أكبرهن أو إحداهن الجلسة بقولها:

"بخرناك بالجاوي جيبلنا الخبر من القهاوي

بخرناك بالزيت جيبلنا الخبر من كل بيت

.... وغيرها من الأشعار"

ثم تبسط فتاتان عازبتان يديهما على البوقال أمام امرأة مسنّة وتضع الحاضرات بعض الحلي على قدر كل واحدة منهن، ومن ثمَّ يبدأ الشعر بافتتاحية معتادة تقول:

"بسم الله بديت وعلي النبي صليت

وعلى الصحابة رضيت، عيطت يا خالقي

يا مولاي يا مغيث كل مغيث، كملي في البوقالات واش نويت

يا ربي أعطينا الفال ولاقينا بولاد الحلال"

ثم يُطلب من جميع الحاضرات عمل عقدة في محارمهن، واستذكار حبيب أو غائب مع عقد النيّة حتى ولو كان المستذكر عدوًا، عندها تبدأ العجوز في سرد الأقوال والبوقالات، كما تسمّى في الشرق الجزائري "المقاديات".

وتمد ّالحاضرات بعدها أيديهن وتستخرج قطعة من الحليّ الموضوعة آنفًا، ليُكشف عن البوقالة المقروءة مع صاحبة الحلية وفألها، وعند كل دور يُسمح للحاضرة بالمشاركة ثلاث مرّات، ثم يتم التأكد من النية من خلال الاختبار.

في مرحلة الاختبار، تحمل الفتاتان "البوقالة" المملوءة بالماء على أطراف أصابعهما في شكل متزن قائلتين: "إذا كان كلامي صحيح دوري بسرعة الريح، إذا قلت الصح ميلي لليمين وإذا قلت الكذب ميلي لليسار".

وبعد منتصف الليل، تصعد النسوة إلى أعلى البيت لتفريغ ماء "البوقالة" وانتظار الفأل، على صوت ضحكة أو صياح أو نداء، ليستبشرن بعدها بما سمعن أو يتطيّرن منه حسب الحالة.

إبراهيم بن عرفة:  للبوقالة دلالة قوية على الحب العفيف والإلهي الذي يكمن في التمنّي والتفاؤل بالخير بين الأحبّة

  • ما دلالة البوقالة في تلك الجلسات التي صنعت فضاء نسويًا متفرّدًا حسب منظورك الشخصي؟

إذا ما أخذنا بالمقاربة الدينية لهذه اللعبة سنجد النصوص الدالة على التحريم قطعية، لكن ليس موضوعًا للبحث لي شخصيًا، وأفضّل تركه لأهل الاختصاص، لكن إذا ما أخذنا الشقّ الجمالي والتراثي، فإن لـ "البوقالة" دلالة قوية على الحب العفيف والإلهي الذي يكمن في التمنّي والتفاؤل بالخير بين الأحبّة، كما أنها تمثل رمزية لفعل المرأة، وعدم قدرتها على مقارعة السلطة الذكورية ممثلةً في الرجل، الزوج، الأب والأخ، حيث لا يبدون لها عادة أي اهتمام بمشاعرها، ولا يُستمع إلى صوتها المكتوم.

 

اقرأ/ي  أيضًا:     

شعر أمازيغ الجزائر.. ذاكرة الألم

البرع.. رقصة الحرب اليمانية