20-سبتمبر-2015

عبد العزيز الغزار/ المغرب

يعتبر الشعر فرعًا من فروع شجرة الأدب الأمازيغي، إذ يمكن اعتباره بشكل عام مفهومًا يشمل محيطًا لغويًا وثقافيًا بمختلف الفضاءات التي تتداول فيها اللغة الأمازيغية، بالأخص منطقة شمال أفريقيا. ويرى الكثير من الباحثين في مجالات الأدب أن الموروث الأدبي الأمازيغي يكاد يختزله الشعر، بل يطغى فيه على سائر الأصناف الأدبية الأخرى، فهو أقدم الفنون في ثقافة الأمازيغ وأكثر طرق التعبير انتشارًا وتداولًا قديمًا وحديثًا، تعددت مضامينه وتنوعت أغراضه ما جعله صعب التصنيف والتجميع.

الأمازيغ شعب يقرأ بالآذان ويكتب بالشفاه

كان الشاعر الأمازيغي بالفعل مرآة عاكسة ليوميات مجتمعه، فقد نظم أشعارًا عن القرية والوطن، عن الفلاح والأرض، عن الحب والغربة، وعن كل تفاصيل الحياة. فكان الشعر بذلك سجلًا للحياة الثقافية والأدبية والتاريخية للمجتمع الأمازيغي.

يحظى الشاعر في بلاد الأمازيغ بمكانة مميزة بين أفراد قريته، إذ إنه رصد في قصائده الألم والأمل، المحن والأفراح. وهو ذو اللسان الفصيح الذي يطرب أسماعهم بكلمات منتقاة في مختلف المواسم والمناسبات، كما أنه كان فيلسوفًا حكيمًا ذا نظرة ثاقبة يصوغ تجارب الحياة في شكل قصائد جميلة، كما لعب دور المؤرخ في نقل الكثير من الأحوال التي عاصرها، فالكثير من الأشعار تحمل بين ثناياها أحداثًا ووقائع تاريخية، والكثير من تلك الأحداث وتفاصيلها وصلتنا عبر أناس حفظوا القصائد وتداولوها أبًا عن جد.

الأمازيغ، كما يقول الباحث والشاعر محمد مستاوي، شعب يقرأ بالآذان ويكتب بالشفاه، لذلك ظل الشعر الأمازيغي حبيس اللسان والشفوية، وكان "ايمذيازن" (الشعراء باللغة الأمازيغية) يرتلون أشعارهم على مسامع الناس فيحفظها بعضهم ويتداولها، ما جعل الشعر في ثقافة الأمازيغ حافظًا لذاكرة الجماعة وركيزة أساسية من ركائز الموروث اللامادي لحضارتهم.

على سبيل المثال، وصلتنا قصائد قيلت في عهد الملكين ماسينسا وسيفاكس، تحكي بطولات الفرسان الأمازيغ في الذود عن قرطاج وأرض نوميديا ضد الرومان رغم أنها لم تدون. لقد كان لصفة الشفوية دور كبير في حفظ تلك الدرر من الزوال، كما أنها كانت أيضًا عاملًا رئيسًا في طمس الكثير من القصائد التي لم تسعها ذاكرة الحفظ، فالشعر الأمازيغي في جوهره مصطبغ بخاصيتي الشفوية والجماعية.

لقد أصبح جمع شتات الشعر الأمازيغي وتدوينه ضرورة يستوجبها الواقع، وأولوية حضارية لإخراجه من عالم الشفوية الضيق إلى فضاء التدوين الأرحب، صونًا له ولأهله من النسيان وحفظًا له من الضياع، فالثقافة الأمازيغية عامة لم تحظ بالاحتضان من طرف المؤسسات الرسمية من أجل جمع موروثها والعمل على نشره تشجيعًا لربط الماضي بالحاضر، وكذا السعي لتدريسه والتعريف به أكاديميًا، وتطويره، والاستفادة منه وإحياء التراث القديم، واستلهام أبعاده التاريخية والحضارية.

مع ظهور الوعي الانتمائي الأمازيغي، أصبح لكتابة الموروث الثقافي وتجميعه دورًا هامًا في بلورة هذا الوعي. أما مرحلة تدوين الشعر الأمازيغي، فلم تبدأ إلا في بداية التسعينيات مع ظهور الدواوين الشعرية التي استعملت الخط العربي من جهة أولى، والخط اللاتيني من جهة ثانية، وخط تيفيناغ (الرموز الأمازيغية) من جهة ثالثة؛ كما طفت إلى السطح الكثير من الأعمال الرائعة في ترجمة الشعر الأمازيغي إلى اللغة العربية وإلى لغات عالمية أخرى.

لم تعمل وزارة الثقافة الجزائرية على ترجمة تراث الشاعر سي محند أومحند إلى اللغة العربية 

لقد لقيت هذه المبادرة استحسان قطاع واسع من النخبة المثقفة الجزائرية في ظل التجاذبات السياسية التي تعرفها الثقافة الأمازيغية منذ الأربعينيات في الجزائر. وقد قال الباحث الجامعي والمذيع بالقناة الإذاعية الثانية الناطقة بالأمازيغية مولود علاك إن خطوة الترجمة تكريس لحوار حقيقي بين ثقافتين تتقاسمان حيزًا جغرافيًا واحدًا منذ قرون، واعتبر الخطوة إجابة عن الأسئلة التي يطرحها هذا الشريك المعرب الذي يقف حائرًا أمام نص شعري لفنان يستقطب آلاف المحبين في العالم من دون أن يفهمه بسبب حاجز اللغة الذي يؤدي إلى سوء الفهم فينتج عنه سوء التأويل، وتعتبرالترجمة من أهم المشاريع الحضارية الساعية لتخليص الثقافة من غبار السياسة، فهي تساعد على بناء حوار مبني على معطيات معلومة، وليس من خلال أحكام مسبقة غالبًا ما تكون خلفيتها سياسية تحكمها مصالح ضيقة.

يعتبر أمازيغ الجزائر، الذين يدنو تعدادهم من عشرة ملايين نسمة، شاعرهم الفريد من نوعه سي محند أومحند، ذاكرتهم الثقافية وحصن هويتهم والدرع الذي يحميها من النسيان والاندثار. ولد سي محند ابن قرية "إشرعون" عام 1860 وتوفي في عز شبابه عام 1906 وذلك بعد أن عاش 46 سنة، ولقد نسجت الأساطير حول حياة هذا الشاعر مما جعله يتحول إلى أيقونة منقوشة في ذاكرة الأجيال. كان الشيوخ في القرى الأمازيغية يروون الكثير عنه، ويقولون إنه هبة من الطبيعة، وما كان يقوله ليس مجرَد كلام موزون ومقفى، وإنه بمثابة ماء الروح التي تحلق في الليالي المظلمة لتضيئها بأضواء أجنحتها، وتسقي الأعشاب والأشجار الميتة فتقوم من قبورها وتنتشر وترتفع في الحقول ومرتفعات الجبال.

يعتبر الشاعر سي محند أومحند بمعيار عصرنا من الشعراء المؤسسين لحركة شعر المقاومة الوطنية بامتياز، ويجمع المؤرخون أن الشاعر سي محند قد تثقف بالثقافة الشعبية الأمازيغية العريقة، كما نهل من الثقافة العربية الإسلامية في بعديها اللغوي والروحي. ويعتبر الشاعر قريبًا من الصوفيين مثله مثل شخصية الشيخ سي محند أولحسين الذي لعب دورًا في ترسيخ حب المعرفة والتعلق بالوطن في المخيال الشعبي الأمازيغي.

لقد تعلّم الأمازيغ من سي محند أومحند الحرية. ويروى أنه اختار حياة الترحال في أرجاء الجزائر كما زار تونس على قدميه، وفي طريقه إلى تونس خاض هذا الشاعر مغامرات كتب عنها قصيدة رائعة تحت عنوان "الطريق إلى تونس". وبهذا الصدد يذكر أزراج عمر أنه التقى مرَة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في تونس، وفي ذلك اللقاء ارتجل مقطعًا من قصيدة للشاعر سي محند بعد أن ترجمها من اللغة الأمازيغية إلى اللغة العربية، فقال له القاسم: "إن هذا شعر عالمي عظيم".

نعم، لم تعمل وزارة الثقافة الجزائرية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا على ترجمة تراث سي محند أومحند ترجمة إبداعية إلى اللغة العربية وإلى اللغات الأجنبية، والتعريف به عربيًا ودوليًا، ولم تبرمج قصائده في برامج المدارس الابتدائية والتكميلية والثانوية والجامعية الجزائرية، لينهل منها الطلاب والطالبات رغم أن عوالم هذا الشاعر تتميز بأبعاد ثقافية عصرية وتقف إلى صف التقدم والحرية.

قام العديد من المفكرين والمثقفين بجمع ثروته المعرفية، التي جعلته رمزًا تنويريًا إذ كانت أشعاره بداية الوعي بالوطن، كما كانت المنطلق الأول الذي انبعث من خلال المد والسعي وراء التحرر والحرية. وقد جمع بوليفة كل كلماته ومعانيه الشعرية في ديوان شعري، وقد تمت ترجمته في كتاب بعنوان "Recueil de poésie kabyle" أو بالعربية "ديوان الشعر القبائلي"، ثم إصداره سنة 1904. كما كانت هناك أيضًا لمسة أخرى للكاتب الجزائري مولود فرعون، الذي انتقى بعضًا من أشعاره وترجمها شخصيًا في كتاب بعنوان "Les Poèmes de Si Mohand" "أشعار سي محند" وصدر سنة 1960. وبعد وفاة فرعون، قام الكاتب الجزائري دادا المولود أيت معمر بإتمام جمع هذه الأشعار في ديوان شعري صدر سنة 1969 بعنوان Les Isefra de Si Mohand".

أشعار سي محند أومحند كانت وما زالت رمزًا خالدًا في الأدب والشعر، وإيقونة قادت كلماته شعوب شمال إفريقيا إلى البحث عن سبل التحرر والانعتاق من أشكال الاستعمار المتعددة التي تغزو الأرض، وكانت قصائده دعوة لتلك الأمم لتطلق الإبداع من داخلها كي لا يصير الخلخال قيدًا.