تفتقر المكتبة المسرحيّة الجزائريّة إلى بحوث ودراسات ترصد السّياقات الموضوعيّة التّي أدّت إلى ظهور الفعل المسرحيّ مبكّرًا في منطقة؛ وتأخّره في أخرى. وتراجعه في منطقة كان منتعشًا فيها، في مقابل انتعاشه في مناطقَ لم تكن معروفةً به.
عمّي الجيلالي كان يرى في المسرح فعلًا ثوريًّا من شأنه أن يُساهم في تحقيق رهان البناء
وتأتي مدينة مستغانم (400 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة)، في طليعة العواصم المسرحيّة، ليس في الفضاء الجزائريّ فقط، بل أيضًا في الفضاء العربيّ والأفريقيّ.
اقرأ/ي أيضًا: الفيلم الجزائري "سينابس" يحصد جائزة بمهرجان الفيلم القصير بهولندا
بالنّظر إلى جملة من التّراكمات في الممارسة المسرحيّة. فقد أطلقت مهرجان مسرح الهواة، بعيد الاستقلال الوطنيّ بخمسة أعوام، على أيدي نخبة من مسرحيِّيها، منهم جيلالي بن عبد الحليم، وظلّت ترعاه رغم ما شابَ تسييرَه في مفاصلَ معيَّنةٍ من أمراض واختلالات.
ولئن كانت بعض المدن تجد صعوبةً في تدبّر جمهور لما يُعرض فيها من مسرحيّات، فإنّ مستغانم رَبَّتْ جمهورًا يرى في مشاهدة عرضٍ مسرحيٍّ حقًّا من الحقوق. ولم يكن هذا صدفةً، بل هو ثمرة طبيعيّة لجهود بذلتها وجوه وواجهات كانت ترى في المسرح نضالًا فنّيًّا مرافقًا للنّضال في المجالات الأخرى.
من فرسان هذه النّخبة المسرحيّة المستغانميّة الممثّل والمخرج والمعالج الدّراميّ والمكوِّن والنّاشط المسرحيّ جيلالي بوجمعة الذّي كان التحاقه بالفنّ الرّابع، منتصف ستّينيات القرن العشرين، مدخلًا لظهور الجيل الثّاني من المسرحييّين في المدينة.
كان عمره تسعة عشر عامًا حين التحق بفرقة "فنّ الخشبة". وإذا أضفنا إلى فورة الشّباب فورة الخطاب الثّوريّ الذّي تولّد عن ثورة التّحرير وما تلاها، فإنّ عمّي الجيلالي كان يرى في المسرح فعلًا ثوريًّا من شأنه أن يُساهم في تحقيق رهان البناء الذّي كان الجزائريّون الذّين طردوا الاحتلال الفرنسيّ مطالبين بتحقيقه.
حدّثني مرّةً قال: "حين أتذكّر درجة الامتلاء بالمسرح التّي كنت عليها، أصاب بالدّهشة من كوني تزوّجت وأنجبت أولادًا وكوّنت أسرة. فقد كنت لا أفكّر في غير المسرح. ولا أراهن إلّا عليه ولا أعتنق حلمًا خارجًا عن دائرته. ولأجله قرأت كثيرًا وكوّنت نفسي وغيري؛ فقد دخلته أصلًا من باب التّكوين".
سألته: كأنّك تربط فعل المسرح بفعل العشق؟ قال: "غادرت فرقة "فنّ الخشبة" وأسّست رفقة الفنّان جمال بن صابر "فرقة الإشارة"، فبقي هو فيها بينما غادرت أنا إلى وجهة غير معلومة. فقد كان حلمي أكبرَ من المنابر التّي كانت متاحةً لي. عليك أن تعود إلى ذلك السّياق الذّي كانت فيه الجزائر خارجة لتوّها من منظومة استعماريّة وداخلة في رهانات تبرّر بكسبها استقلالَها، حتّى تفهم شرعيّة الحلم الكبير الذّي كان يسكنني من جهة؛ وتفهم من جهة أخرى التمزّق والحيرة اللّذين كانا يجعلانني أبحث يوميًّا عن مظلّة أومن بجدواها في تحقيق حلمي".
كنت وما أزال، يقول عمّي بوجمعة الذّي لا تدري من يمتصّ الآخر، هو أم سيجارته، أسكن على بعد خطوات من شاطئ صلامندر. وكان البحر رفيقي في رحلة البحث تلك. فاهدتيت عام 1978 إلى جعل بيتي فضاءً مسرحيًّا. إذ سألت نفسي: لماذا لا أجلب المسرح إلى بيتي عوضًا عن الذّهاب إليه في بقع أخرى خارجه؟ من هنا يمكنك أن تفهم لماذا طلع أولادي بشير وهاجر وأمينة مسرحيّين، فقد فتحوا عيونهم وآذانهم عليه. إنّنا نجد بعض الفنّانين يربطون نزعتهم المسرحيّة بكون فضاءٍ مسرحيّ كان قريبًا من بيوتهم. فكيف بطفل وُلد أصلًا داخل فضاء مسرحيّ".
غير أنّ المسرح يحتاج إلى الحرّية والاتّساع في الفضاء؛ فراح جيلالي بوجمعة يبحث من جديد عن فضاء يحقّق له ذلك، ولم يكن ذلك الفضاء إلّا مبنًى مغروسًا في فم البحر كان حانةً في العهد الفرنسيّ، فهو مشيّد أصلًا لاستقبال جمهور متعدّد؛ ويحتلّ بقعةً في متناول النّاس.
بذل الرّجل جهدًا كبيرًا في إقناع المسؤولين المحلّيّين بأن يعطوه ترخيصًا بتحويل المبنى إلى مسرح خاصّ. وما أن حصل عليه، حتّى حوّله مع شركائه إلى فضاء مسرحيّ حمل اسمًا اقترحه عليهم البحر نفسُه "مسرح الموجة". حيث بات مأوًى لممارسي المسرح في مستغانم والجزائر معًا، منهم صراط بومدين الذّي لفظ أنفاسه على خشبته سنة 1995، بما جعل منه العلبة السّوداء للمسرح الجزائريّ.
إنّه المعطى الذّي جعل عمّي الجيلالي والذّين معه يتصدّى عام 2009 لقرار ولاية مستغانم بإزالة المباني القديمة الموجودة على طول شاطئ صلامندر، قصد تهيئته بتصوّر جديد، فكان مستعدًّا لأن يعترض الجرّافة بصدره؛ رفقة عشرات المسرحيّين الذّين تعاطفوا معه، لولا أنّ اتّفاقًا حصل بينه وبين السّلطات قضى بمنح "مسرح الموجة" مقّرًّا بديلًا وقريبًا من المقرّ القديم.
تغيّر المقرّ ولم يتغيّر العشق. إذ واصل الجيلالي؛ رفقة أولاده الذّين كبروا هذه المرّة، ورفقة عناصر مسرح الموجة ومحبّيه الذّين تضاعفوا، مشوارَ التّنوير بالفنّ الذّي لم يتركه، حتّى في عزّ سنوات العنف والإرهاب، حيث كانت ممارسة الفنّ طريقًا معبّدًا إلى المقبرة.
سألت عمّي الجيلالي؛ على هامش تظاهرة مسرحيّة عام 2012: لماذا لم تستغلّ مواهبك وشكلك وعلاقاتك، في خوض تجارب سينيمائيّة، فقد أجرى عدّة مخرجين جلسات اختيار الممثّلين في مقرّ "مسرح الموجة"؟ قال: أؤمن بأنّ وجهي صالح للسّينما، لكنّني أؤمن أيضًا بأنّ السّينما لا تصلح لشغفي". ثمّ بعد لحظة صمت قال: "ذوّبتُ ذاتي في الآخرين، من خلال النّضال المسرحي، على مدار نصف قرن، ولأنّني أخلصت في ذلك؛ فستعوّض لي السّينما يومًا".
تذكّرت هذا فابتسمت، حين تلقّيت خبر افتكاك عمّي الجيلالي لجائزة أفضل ممثّل، عن دوره في فيلم "إلى آخر الزّمان" للمخرجة يسمين شويخ، في مهرجان "سلا" لفيلم المرأة بالمملكة المغربيّة عام 2018، ثمّ تذكّرته هذه الأيّام، بافتكاكه جائزة "الزيتونة الذّهبيّة"، ضمن مهرجان القدس السّينمائيّ مناصفةً مع النّجم أيمن زيدان.
بات كلّ تتويج لعمي الجلالي في الحقيقة تتويجًا لقيمة الإخلاص للفنّ
إنّ المكابدات التّي بذلها الجيلالي بوجمعة، خلال مساره الفنّي الذي يساوي عمرَالاستقلال الوطنيّ، أهّلته لأن يُصبح نجمًا في مسعاه إلى صناعة النّجوم؛ فبات كلّ تتويج له في الحقيقة تتويجًا لقيمة الإخلاص للفنّ.
اقرأ/ي أيضًا: