حين ولد المغنّي رشيد طه عام 1958 في الغرب الجزائري، كانت الثّورة الجزائرية دخلت في منعطف حاسم فرضته زيارة شارل ديغول إلى الجزائر، وإعلانه ما عرف بـ"مشروع قسنطينة" القاضي بإطلاق مشاريع تنموية واجتماعية لإيهام الرّأي العام الدّولي بأنّ مطالب الثوّار اجتماعية وليست تحرّرية.
جعل الإرث والصّدى الثّوريان، اللّذان فتح عليهما الطفل رشيد عينيه وأذنيه يكبر مسكونًا بالمقولات الوطنية
جعل الإرث والصّدى الثّوريان، اللّذان فتح عليهما الطفل رشيد عينيه وأذنيه، إذ افتكّت البلاد استقلالها أربع سنوات بعد ولادته، يكبر مسكونًا بالمقولات الوطنية، التّي برمجته على الرّفض، الذي سكن أغانيه بعد انخراطه في الغناء عام 1980.
اقرأ/ي أيضًا: ناجي شاكر.. الموهوب متعدد المواهب
لقد تجاوزت روح الرّفض، التّي تسكن روحه ومواقفه وأغانيه الوضع في الجزائر، إلى وضع المهاجر الجزائري في فرنسا، التّي انتقل إليها رفقة أسرته عام 1968، إذ عمل في بعض المطاعم والنّوادي حتّى يتكفّل بنفسه بعيدًا عن أيّة رعاية من الغير، وهي التّجربة التّي جعلته يحتكّ بواقع فرنسيّ لم تعصمه خطابات الحرّية والإنسانية والانفتاح، التّي تتغنّى بها نخبُه السّياسية والثّقافية، من نزعة عنصرية تشوب سلوكه وتفكيره.
اقتنع رشيد طه مبكّرًا بأنّ المهاجر مطالب بأن يثمّن تلك المقولات ليضمن البقاء، لكنّه مطالب في الوقت نفسه بأن يناضل من أجل تغيير نظرة الفرنسيين إليه ليضمن الحضور، فأقدم رفقة أصدقاء له على تأسيس فرقة موسيقية باسمٍ دالٍّ هو "بطاقة إقامة"، مجسّدًا من خلالها وضعه بصفته مهاجرًا يجمع ين ملمحين ثقافيين هما الملمح الجزائري والملمح الفرنسي، فجمع ين طابعي الرّاي النّابع من الغرب الجزائري حيث ولد، والرّوك الغربي حيث يعيش.
من هنا، بدأت علاقة ابن مدينة سيق المعروفة بالسّواقي والزّيتون الفاخر، بالموسيقى مبنية على تمرير الرّسائل وخلقها، في مشهد فرنسيّ مفخّخ بتهميش المهاجرين واحتقارهم. وهي العلاقة نفسها، التّي ربطت جيل الرّاي في المشهد الجزائري مطلع ثمانينات القرن العشرين بالموسيقى، إذ مثّل موجة ثورية انقلبت على السّائد، من خلال رمزية حلول لقب "الشّاب" عوضًا عن لقب "الشّيخ".
لم يحمل رشيد طه لقب الشّاب، بالنّظر إلى كونه كان بعيدًا عن السّياق الجزائري الذي أفرزه، لكنّ اشتراكه مع مغنّيه في المنطلقات نفسها، جمعه بهم لاحقًا، في منصّات كثيرة، كانت أنجحَها المنصّة، التّي جمعته بالشّابين خالد، الذّي يمثّل جيل الرّوّاد في أغنية الرّاي والشّاب فضيل، الذي يمثّل الجيل الجديد.
لقد حقّق الحفل نجاحاتٍ مادية وإعلامية غير مسبوقة، إذ تحوّل الألبوم المشترك "3.2.1. شمس" إلى أيقونة، ليس لدى الشّباب الجزائريين فقط، بل لدى الشّباب العرب والغربيين أيضًا، وهو الدّمج بين الثّقافات، الذي أفلح صاحب ألبوم "الدّيوان" بجزئيه، في الاشتغال عليه وتكريسه في مساره المقترب من عقده الرّابع.
رشيد طه، المسافر الذي نصح الشابّ الجزائريّ بأن يعود إلى مسقط رأسه، لم يعد قادرًا على العودة
رغم أنّ رشيد طه غادر مسقط رأسه مبكّرًا، إذ كان عمره عشرة أعوام، وهو المعطى الذي لم يسمح له بأن يحتكّ كثيرًا بالشابّ الجزائري المقيم في الدّاخل، إلّا أنّه استطاع أن يفتكّ مكانة طليعية لدى هذا الشّاب، لأنّه رأى فيه روح المقاومة والاجتهاد والتمسّك بانتمائه، إذ لم يطلب الجنسية الفرنسية إلّا مؤخّرًا، حين صار أكثر شهرةً وصار جواز السّفر الجزائري يعرقل سفرياته في العالم.
اقرأ/ي أيضًا: "أسوَد" يوسف عبدلكي.. الرسم لعبة شطرنج
جسّد هذه الرّوح عام 1993 من خلال إعادته المميّزة لأغنية "يا الرّايح"، التّي غنّاها دحمان الحرّاشي، فأخرجها من محلّيتها إلى آفاق أرحب، حتّى أنّها أضحت أكثر الأغاني الجزائرية المحيلة على الجزائر. وإنّ المسافر الذي نصح الشابّ الجزائريّ بأن يعود إلى مسقط رأسه، لم يعد قادرًا على العودة، وقد رحل أمس الأربعاء، إلا من خلال عطر أغانيه.
اقرأ/ي أيضًا: