أظهرت الاتفاقات التي وقعتها الجزائر في الأيام الأخيرة في قطاع الطاقة أنها مصرة على البقاء ضمن أحد الممونين الرئيسيين بهذا المورد الحيوي في المتوسط، وذلك للحفاظ على أهم مصدر لمداخيل البلاد بالعملة الصعبة، وهو ما يمثل خطوة أساسية في عملية الانتقال الطاقوي الملزمة بالقيام بها اختياريا أو إجباريا للمحافظة على زبائنها التقليدين في هذا المجال وعدم خسارتهم لمنافسيها في سوق الطاقة النظيفة الذي بدأ يتشكل في السنوات الأخيرة.
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أصبحت الجزائر حاضرة على الدوام في صلب النقاش الطاقوي العالمي، الأمر الذي حتّم عليها أكثر مواكبة هذه التطورات ومحاولة الاستفادة من هذه المتغيرات الجديدة
ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أصبحت الجزائر حاضرة على الدوام في صلب النقاش الطاقوي العالمي، الأمر الذي حتّم عليها أكثر مواكبة هذه التطورات ومحاولة الاستفادة من هذه المتغيرات الجديدة لتحقيق أهدافها المتعلقة بتنويع منتجاتها الطاقوية، وتحقيق الانتقال المطلوب في هذا المجال.
عدة اتفاقات
وقعت الجزائر هذا الأسبوع على هامش الطبعة الـ12 لمعرض ومؤتمر إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط للطاقة والهيدروجين "ناباك 2024" الذي احتضنته وهران عدة اتفاقات تساهم في رسم معالم الاستثمارات القادمة للجزائر في مجال الطاقة باعتبارها بلدا موردا موثوقة لهذه المادة الحيوية.
ووقعت الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية على مذكرة تفاهم للتعاون في مجال العمل المناخي والحد من انبعاثات الغازات الدفيئة خاصة الميثان.
وقال وزير الطاقة والمناجم محمد عرقاب إن المحادثات والمشاورات كانت متعددة وأفضت إلى التوقيع على هذه المذكرة "بالغة الأهمية لبلادنا خاصة في التزاماتنا المناخية الدولية إذ أنها تتعلق بدعم الجهود الرامية إلى تحديد مصادر انبعاثات الغازات الدفيئة خاصة الميثان".
وأضاف عرقاب أنه بموجب مذكرة التفاهم يسعى الجانبان إلى تعزيز وترقية التعاون في مجال العمل المناخي وخفض انبعاثات غاز الميثان عبر دعم الجهود الرامية لتحديد مصادر انبعاثات الغازات الدفيئة والحد منها، خاصة غاز الميثان عبر سلسلة من الأنشطة للتعاون، بما في ذلك تنظيم ورشات عمل ومؤتمرات وتبادل المعرفة والخبرات وتنظيم البرامج التدريبية وتنفيذ المشاريع الرائدة في مجال التقنيات المتقدمة وتحديد وتطوير المشاريع المشتركة لخفض غاز الميثان ووضع استراتيجيات للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، ولاسيما الميثان في قطاع المحروقات.
وتهدف المذكرة تهدف إلى تبادل المعلومات والخبرات حول الممارسات الرائدة والتطبيقات التكنولوجية المتعلقة بالجوانب الفنية والتنظيمية والقانونية لقياس وكشف وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة ولاسيما غاز الميثان, من أجل تحقيق هدف الحد من انبعاثات غاز الميثان في الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية, والعمل بشكل مشترك لتعزيز التعاون بين الوكالات الحكومية والمؤسسات الأكاديمية والمراكز العلمية والبحثية وممثلي القطاع العام والشركات الوطنية في البلدين, وفق الوزير.
وفي التعاون الطاقوي بين الجزائر والولايات المتحدة ذاته، بحث عرقاب مع نائب رئيس شركة إكسون موبيل للبحث والاستكشاف جون أرديل فرص الشراكة والاستثمار والمشاورات الجارية بين سوناطراك وإكسون موبيل، في مجال تطوير المحروقات، ولاسيما في مجال المنبع البترولي والغازي.
وتحادث عرقاب مع نائب الرئيس لشمال أفريقيا والشرق الأوسط لشركة "هاربور إنرجي" البريطانية سامح صبري حول فرص التعاون والاستثمار في مجال الطاقة وآفاق تطويرها، حيث أعربت "هاربور إنرجي" عن رغبتها في تعزيز تواجدها في الجزائر ، ولاسيما في مجال التنقيب عن المحروقات واستغلال وتطوير حقول الغاز الطبيعي مع سوناطراك.
ووقعت سوناطراك على مذكرة تفاهم مع الشركة الطاقوية الاسبانية سيبسا بهدف إجراء دراسة جدوى مشتركة لتطوير مشروع متكامل لإنتاج الهيدروجين الأخضر ومشتقاته في الجزائر.
وسيتيح هذا المشروع تصدير الهيدروجين إلى إسبانيا عبر البنية التحتية القائمة أو مشروع جديد.
وتشمل مذكرة التفاهم دراسة وتحليل وتقييم الجدوى الفنية والاقتصادية، وتصميم المشروع وتطويره وبنائه واستغلاله وتشغيله وصيانته، ويتمثل في انجاز محطة للتحليل الكهربائي الهيدروجيني بقدرة "50-200 ميغاواط" لإنتاج الهيدروجين الأخضر“، وإنجاز محطات توليد الطاقة من الرياح والطاقة الشمسية لتزويد المحللات الكهربائية بالطاقة المتجددة، وإنجاز محطة إنتاج الميثانول الأخضر والأمونيا الخضراء، مع إنجاز مرافق تخزين ونقلهما.
ولعل اهم مذكرة تفاهم وقعتها الجزائر هذا الأسبوع هي تلك التي تم إمضاؤها بين سوناطراك وسونلغاز و شركات "في أن جي" الألمانية و"سنام" و"سي كوريدور" الإيطاليتين و"فيربوند غرين هيدروجين" النمساوية، والتي تخص الهيدروجين الأخضر، فقد تم الاتفاق على إنجاز مشترك للدراسات الضرورية لتقييم جدوى ومردودية مشروع متكامل لإنتاج الهيدروجين الأخضر بالجزائر قصد تزويد السوق الأوروبية عبر محور "ساوث 2 كوريدور"، والذي سيربط الجزائر بألمانيا عبر إيطاليا والنمسا.
وتسعى الدول الأربع من خلال الممر الجنوبي لنقل الهيدروجين، إلى تزويد الاتحاد الأوروبي بالهيدروجين الأخضر، ونقل ما يقارب 4 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر سنويًا من الجزائر، وذلك اعتمادا على استغلال المنشآت الحالية لغرض نقل الهيدروجين أو من خلال منشآت جديدة. كما يعتبر هذا المشروع ذو أهمية إقليمية للترابط الطاقوي بين أوروبا وأفريقيا عبر الجزائر، وفق ما جاء في بيان لوزارة الطاقة الجزائرية.
وقال المستشار الدولي في التنمية الاقتصادية عبد الرحمان هادف لـ" الترا جزائر" إن الاتفاقات الموقعة تدخل في إطار الدور الذي يضطلع به قطاع الطاقة في مشروع التحول الاقتصادي الذي باشرته الجزائر لتنويع اقتصادها، باعتباره سيشكل قاطرة هذا التحول وكذا كونه يمثل مصدرا للتمويلات بالعملة الصعبة.
مقاربة جديدة
ويلاحظ هادف أن الجزائر تحمل اليوم مقاربة جديدة تخص قطاع الطاقة بشكل كامل، وليس مجال المحروقات فقط، ، مبينا أنه إضافة إلى ما جاء في قانون المحروقات 19/13 الذي جعل الجزائر أكثر جاذبية للاستثمار عبر الاستكشاف والإنتاج في قطاع المحروقات، نجد هناك اهتماما حكوميا كبيرا بالطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر.
و أضاف المستشار الدولي في التنمية الاقتصادية أن سوناطراك استطاعت إمضاء عقود مع شركات نفطية عالمية مثل "شفرون" و"إيكسون" و" شال" لتنفيذ عمليات الاستكشاف في البترول والغاز، وإنتاج المواد النفطية، مرفقة ذلك باستثمارات إقليمية كالأنبوب العابر للصحراء والتنقيب في النيجر وليبيا.
المستشار الدولي في التنمية الاقتصادية عبد الرحمان هادف لـ" الترا جزائر": الاتفاقات الموقعة تدخل في إطار الدور الذي يضطلع به قطاع الطاقة في مشروع التحول الاقتصادي الذي باشرته الجزائر لتنويع اقتصادها، باعتباره سيشكل قاطرة هذا التحول
ويرى عبد الرحمان هادف أن تنفيذ مشاريع الانتقال الطاقوي في الجزائر أصبحت اليوم واقعا ميدانيا، فورقة طريقها تتضمن الوصول إلى إنتاج 15 ألف ميغاواط عبر الطاقة الشمسية في 2030، فيما يبقى المشروع الأكبر هو الممر الجنوبي لنقل الهيدروجين الذي سيسمح بتزويد أوروبا بهذا النوع من الطاقة، وبالتالي المساهمة في عملية الانتقال الطاقوي لا تقتصر داخليا فقط إنما حتى في الضفة الشمالية للمتوسط.
وقال الرئيس المدير العام لمجمع سوناطراك رشيد حشيشي إن مشروع "ساوث2 كوريدور" سيكون بمثابة حجر الأساس لانطلاق صناعة الهيدروجين الأخضر في الجزائر، كونها تمتلك كل الإمكانيات اللازمة لتنفيذ ذلك، مضيفا أن السوق العالمية (السوق الأوروبية على وجه الخصوص) تشهد حاليا طلبا كبيرا على هذه الطاقة النظيفة.
ولفت إلى أن تكلفة الهيدروجين الجزائري تشكل ميزة إضافية حيث تشير الدراسات تقدر ما بين 1.2 و2 دولار للكيلوغرام الواحد، فيما يكلف بين 5 و6 دولارات في أوروبا.
وأشار الخبير الاقتصادي عبد الرحمان هادف إلى أن أهمية هذه الاتفاقات تكمن في أنها تسمح للجزائر بلعب دورها كعنصر فعال على الخريطة الطاقوية العالمية، إضافة إلى المساهمة من الجانب العملياتي في رفع قدراتها الإنتاجية بتعزيز مخزونها من الطاقة بكل أشكالها ومصادرها.
تنويع
ويرى هادف أن المقاربة الجديدة للجزائر في مجال الطاقة هي تنويع الشركاء من زبائن ومستثمري، فحتى مع زبائنها التقليديين تعمل على تعزيز مكانتها، كونها تعد اليوم ثالث مورد لأوروبا بالغاز، لذلك من المهم تطوير مصادر الطاقة لتشمل الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر.
وأشار إلى أن الجزائر تبحث على تلبية طلبات الزبائن البعيدين أيضا من خلال تعزيز وجودها في سوق الغاز المسال، وتطوير أسطول النقل الخاص بذلك، لرفع حضورها في السوق الدولية كخيار إستراتيجي يجب الوصول إليه.
واحتلت الجزائر المرتبة السابعة عالميا من حيث الطاقة الإنتاجية للغاز الطبيعي المسال، بواقع 25.5 مليون طن سنويا حتى نهاية فيفري الماضي، كأول دولة إفريقية في الترتيب، وفق تقرير للاتحاد الدولي للغاز نشر شهر أغسطس أوت الماضي.
وقال وزير الطاقة محمد عرقاب للتلفزيون الحكومي الرسمي في أيار مايو الماضي إن الجزائر ستنتج 200 مليار متر مكعب من الغاز على المدى المتوسط مقارنة مع 137 مليار متر مكعب في 2023، وذلك بفضل الاكتشافات الجديدة التي حققتها في الفترة الأخيرة.
وتجد الجزائر اليوم نفسها ملزمة برفع الانتاج وذلك لتلبية الطلب الداخلي المتزايد، وكذا لتلبية حاجيات زبائنها الذين يرتفع عددهم من عام لآخر، حيث لم يعودوا يقتصرون على الدول الأوروبية القريبة فقط، إنما الطلب قادم اليوم من سلوفينيا والتشيك والمجر وتركيا ودول أخرى، وهو ما يتطلب تحقيق الانتقال الطاقوي المطلوب الذي يضمن بقاء الجزائر ممونا موثوقا للطاقة، والحفاظ في الوقت ذاته على أهم مصدر مالي لاقتصاد البلاد.