09-ديسمبر-2017

أيتها الحكومة، حاربي الجريمة بالمسرح (أ.ف.ب)

تقول أرقام المؤسّسة الأمنية في الجزائر إنّ معدّل الجريمة ما بين عامي 2014 و2017 بلغ 700 جريمة في اليوم. أي أنّ البلاد تعرف ما لا يقلّ عن ربع مليون جريمة سنويًا، بعضها يوصف بالبشع والقاسي وغير المسبوق إليه. فالشّارع الجزائري، بحسب الحقوقي عقبة بوشاقور، بات "يبدع" في عالم الجريمة، بالنظر إلى تحوّلات جديدة في يومياته، منها انخراطه غير الواعي في التكنولوجيات المختلفة، وخلوّ تجمّعاته السّكنية من فضاءات متخصّصة في امتصاص جرعات العنف.

تجاوز عدد المهرجانات في الجزائر في وقت ما 150 مهرجانًا، لكنها لم تركز على الجدوى ولم تضع سياسة تراعي من خلالها دور الفن في مواجهة نزعة العنف

أدّت هذه التحوّلات غير المدروسة والمرصودة في عمومها، يضيف محدّث "الترا صوت"، إلى تفاقم ظاهرتي الانتحار وتعاطي المهلوسات والحشيش لدى الأطفال والمراهقين، إذ بلغ عدد الأطفال المنتحرين 2291 عام 2012، المبلغ عنهم، وبلغت نسبة التلاميذ المتعاطين للمخدرات في الطورين المتوسّط والثانوي 26 بالمائة حسب "الهيئة الوطنية لترقية الصّحة وتطوير البحث".

اقرأ/ي أيضًا: الجزائر.. جرائم متعددة تهدد تماسك المجتمع

يقول الممثل والمكوّن المسرحي حليم زدّام، الذي كان أحد مؤسّسي "مسرح التّاج" عام 1989: "الجريمة معطًى إنساني ويحتاج في تحجيمه والتعامل معه إلى سياسات إنسانية، وهذا ما لا أرى أن المنظومة الوطنية تركّز عليه". يضيف حليم زدّام: "لقد صرفت الحكومة أموالًا طائلة على دعم الفنون، حتى أن عدد المهرجانات في وقت ما تجاوز 150 مهرجانًا، لكنها لم تركز على الجدوى، ولم تضع سياسة تراعي من خلالها دور الفن في مواجهة نزعة العنف واحتضان الجيل الجديد".

في مجال المسرح، يقول محدّث "الترا صوت"، نبّهتني تجربتي في الممارسة والتكوين المسرحيين، على مدار 30 عامًا، إلى أن المسرح يملك سحرًا خاصًّا في استقطاب النّفوس، بحكم أنه فعل جماعي، "فهو شبيه بالأسرة القائمة على الحميمية والتّواصل والصّداقة والشّراكة وتبادل الخبرة والتّجربة والأسئلة والأجوبة والحزن والفرح واللّقمة والدّينار وفنجان القهوة".

يسأل: "أليس افتقاد الشابّ لهذه المناخات ما يدفعه للانحراف؟ لماذا لا تشجّع المنظومة الثقافية، إذًا، على بعث المزيد من الجمعيات والتعاونيات المسرحية؟ والتكفّل باحتياجات الموجود منها؟ هل تطبيق سياسة التّقشّف منطقية في هذه الحالة؟ لماذا لا تفرض على دور الشّباب والثقافة والتّرفيه والتّسلية، التي تخصّص لها الحكومة أغلفة مالية سنوية أن تستعين بمكوّنين ومهتمّين بالفعل المسرحي ليستقطبوا الشّباب المؤهلين للانحراف، ويوفّروا لهم حاضنة فنية بدلًا عن حاضنة الشّارع؟".

في سياق هذا الاقتراح، عمل مسرح مدينة العلمة الحكومي، 300 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، على إطلاق ورشات تكوينية في المسرح، على مدار ثمانية أشهر، في محافظات سطيف والمسيلة وبرج بوعريريج، أوكل مهمّة الإشراف عليها واستقطاب الشّباب إليها وتأطيرهم مسرحيًا إلى فنّانين ومربّين لهم تجارب معروفة في هذا الباب. وقد تُوّجت هذه الورشات بتقديم العروض الناتجة عنها ضمن "مهرجان مسرح الشّباب".

شباب جزائريون يتدربون بأحد المسارح (الترا صوت)

عمل مسرح مدينة العلمة الجزائرية على إطلاق ورشات تكوينية في المسرح للشباب سعيًَا لاستعادة دور المسرح التربوي والتأطيري

اقرأ/ي أيضًا:  محمد أمين رفاس.. مناضل شاب لأجل المسرح

يقول الفنّان ومدير مسرح العلمة سفيان عطية لـ"الترا صوت" إنّ الشّاب الذي يكون تحت رعاية المسرح والمسرحيين لثمانية أشهر، ثم لشهور أخرى في إطار جولة وطنية لتقديم العرض، الذي تمخّضت عنه الورشة لا يمكن إلا أن يتطهر من شوائب الواقع اليومي، ويصبح مبرمجًا على هاجس الفنّ لا هاجس الجريمة، "لقد أطّرنا حوالي 100 شابّ، وستجد من بينهم من قدم إلى المسرح من عوالم الشّارع المحيلة على الانحراف بكلّ أشكاله". يختم: "لقد آن للمنظومة المسرحية الجزائرية أن تستعيد الدّور التربوي للمسرح، كما كان موجودًا قبل الاستقلال الوطني".

في هذا الباب، يعترف الممثل بوزيان بلقاسم أمين (1991) أنه فتح عينيه في بيئة منخورة بالخوف الذي خلقه الإرهاب، وبالفقر والعزلة والتهميش، "ممّا جعل طفولتي جحيمًا أدّى بعلاقتي بالدّراسة إلى أن تكون متشنّجة، إذ لم تكن الدّراسة تشكّل لي نافذة للحلم، بقدر ما كانت الهجرة غير النظامية تفعل ذلك".

شباب جزائريون يتدربون بأحد المسارح (الترا صوت)

من هنا، يواصل محدّث "ألترا صوت"، "امتدّ التشنّج إلى علاقتي بالمجتمع نفسه، إذ وصلت إلى عتبة فكّرت فيها في أن أتعاطى المهلوسات، هروبًا من الضّغوط المختلفة. غير أن إقدام أحد الأساتذة على تأسيس فرقة مسرحية في الثّانوية وانخراطي فيها حالا دون أن أفعل ذلك". يسأل: "لماذا اختفى المسرح المدرسي في الجزائر؟ لماذا بقي قرار وزارة التربية بإدراج المسرح ضمن المنظومة المدرسية حبرًا على ورق؟ أنا نفسي، هل كنت سأنجو من دواعي الانحراف لولا المسرح؟".

حين قيل لي، يقول بوزيان بلقاسم أمين، إنّ هناك ورشة مسرحية تستمرّ ثمانية شهور، قلت في نفسي ها أنا قد وجدت أسرة بديلة. وكنت أذهب يوميًا إلى التّدريبات في دار الثقافة لأتطهر من الواقع البائس، وأغرق في واقع ممتع مع زملائي الذين أضحوا إخوتي وأستاذي الذي أصبح أبي والتمثيل الذي أصبح محلّ طموحي". يختم: "أعرف عشرات الشّباب ممّن حصل لهم ما حصل لي مع المسرح، والعشرات ممّن هم مؤهلون لأن يسلكوا الطريقة نفسه. أيتها الحكومة، حاربي الجريمة بالمسرح".

 

اقرأ/ي أيضًا:

على درب الحلم الأوروبي.. قصة جزائري عائد من الموت

المسارح الجزائرية.. من البحبوحة إلى الصّوت المبحوح