سنويًّا، يزور ولاية سكيكدة، شرقي الجزائر، ما بين 10 ملايين إلى 12 مليون سائح. وما من سر وراء ذلك سوى أن "روسيكادا" الذي ظلّت أفضل مصدر للرّخام لروما خلال الفترة الرومانية، تميّزت منذ الأزل بتنوع عجيب، وثراء التضاريس نادر، يجمع بين ثلاثة أقانيم ذهبية: شواطئ سحرية، وغابات جميلة، وشلاّلات غزيرة.
لا شيء يعادل نوبة المياه الباردة التي صارت لا مجرد نزعة للانتعاش، بل علاجًا مثلما يوصي بذلك مختصو الطب الرياضي
تمنح الوديان الجارية والشلالات المتدفقة، قيمة مضافة لهذه الوجهة، فكما يمكن لطالبي الاستجمام اللجوء للشواطئ العامرة مثل: "جان دارك" و "الكاريار" و "سطورا"، أو تمضية أيام رائعة في الشواطئ المعزولة مثل ﭭرابلو ووادي بيبي والخرايف وخناق مايون و"وادي طنجي".
يمكن للزائرين التوجه إلى الشلالات والوديان العذبة التي تبعث في النّفوس الانشراح الروحي التام وتجلب الاسترخاء البدني المثالي، فلا شيء يعادل نوبة المياه الباردة التي صارت لا مجرد نزعة للانتعاش، بل علاجًا، مثلما يوصي بذلك مختصو الطب الرياضي، للتّشافي من التّعب والتّحضير الجيّد للياقة العالية وتحسين المزاج.
كثيرة هي نقاط الماء الزرقاء في جغرافيا مدينة "سكيكدة" الخضراء على الدوام، فثمّة تشكيلة من الوديان الكبيرة والغزيرة، أشهرها وادي غابة تيزغبان الملونة، وقد سميت كذلك لتعدّد الأطياف على التشكيلات المتنوعة للأشجار مختلفة الألوان، ووادي بودودح بدائرة الزيتونة، ووادي الرميلة بـ"وادي الزهور"، ووادي تيرقاط بمنطقة تمالوس، ووادي الكبير المليء بالأسماك قرب بلدية المرسى المعروفة بـ" شواطئ هاواي" والميناء القديم بـ"رأس الحديد".
متعة وأمان
اللاّفت أنّ هذه الوديان القريبة من الشواطئ الغربية للولاية منح خيارات عدّة للزوار؛ فبإمكانهم إمّا التمتّع بالسباحة والتّخييم قرب الشّريط الأزرق، أو تخصيص زيارات لها، إذ تتّخذ في بعض الأحيان طابع الاستكشاف والمغامرة والتّجوال، خاصة وأنّها تقع في قلب غابات مليئة بأشجار الكستناء والفلين والزيتون وبساتين الكرز والقسطل.
هي وجهة مفضلة للزوار من الولايات الداخلية، وحتى من السياح من خارج البلاد، كما يقول ابن المنطقة، أحمد زقاري الإعلامي والمنتخب بالمجلس الشعبي الولائي لسكيكدة لـ" الترا جزائر"، موضحًا أن سياحة الوديان والشلالات تستقطب الزوار، بتأثير واضح من وسائط " السوشل ميديا"، التي لعبت دوراً كبيراً في التعريف بها للجميع.
هذه المناطق الخلابة أسهمت في تغيير صورة نمطية تكرست طويلًا عن الجزائر في المخيال العربي والدولي، إذ ترسخت لزمن طويل لدى البعض أن الجزائر صحراء نسبة لـ "محاربي الصحراء" الوصف الذي يوسم به المنتخب الوطني لكرة القدم، لكنهم ينبهرون بعد اكتشافهم للوجه الآخر لبعض المناطق الجميلة.
إلى ذلك يعدّد المتحدث خصائص هذه الأماكن، قائلًا: "هذه الوديان والشلالات ذات مياه جارية غير راكدة، وهي نقية وعذبة، لأنّها واقعة في مناطق كثيفة الأشجار وبعيدة عن أعين الناس. فهي بالتالي غير ملوثة لبعدها عن التجمعات السكانية الكبرى وشبكات الصرف الصحي والتطهير، بل إنّ بعضها مثل شلال وادي أفنسو صالح للسباحة وللشرب معًا.
قبل أن يلفت النظر لأمر بالغ الأهمية: "ثمة عامل آخر يجعلها مقصودة من طرف الجميع، فهي ليست عميقة ولا تشكّل خطرًا على الأطفال والنساء والعجائز، وهي الفئات الأكثر تردّدًا عليها، ما يجعلها آمنة إذا ما قورنت بالمسطحات المائية التي تتسبب في وفيات للأطفال الذين يدفعون حياتهم طلبًا للمتعة في أحواض مغلقة وخطيرة خاصة في المناطق الداخلية جراء انعدام المسابح الكافية".
في واقع الحال يمكن ملاحظة بشكلٍ واضح الكم الهائل للأطفال والعائلات التي تقصد هذه الجنان المائية، إذ يبدو مرافقوهم أكثر شعورا بالأمان، فإذا كانت الجزائر قد سجلت قبل العام الفارط 70 حالة وفاة للأطفال في السدود والمسطحات المائية، جراء الغرق أو الغرق الثانوي الراجع لتوقف القلب بسبب برودة الماء المتسرب للأوعية التنفسية وانقباض الأوعية الدموية الطرفية، فإن عدد حالات الوفاة، غرقاً، مثلما يستنتجه زقاري، "يساوي صفر".
قنواع: ضباب الصيف
كثيرا ما ترى مواكب مصطافين متجهين من شبه جزيرة القل عبر رأس بوقارون، أو عبر دائرة الزيتونة إلى بلدية قنواع، التابعة لها إداريًا، فالطريقان ممتعان للغاية إذ تنتشر على جنباتهما غابات كثيفة من أشجار الفلين التي صنعت مجد الولاية في صناعة الغليون قبل عقود.
قنواع تسمى أيضا ببلدة القسطل والكرز والضباب، ففي عز حر شهري تموز/جويلية وآب/ أغسطس، يمكن مصادفة كتلٍ ضخمة من الضباب الحاجب للرؤية، كما لو أننا في قلب الشتاء وهذا نادر جدا أن يحدث، غير أنّ الزوار لا يأتون من أجل الضباب بل للتمتع بشلالي عين السدمة الذي يتطلب المشي سيرًا على الأقدام على مسافة 6 كلم وسط الأحراش والمعابر الغابية والبساتين.
ويشبه هذا الشلال شلالًا آخر يسمى "توتوش" في منطقة مرسى الزيتون، بخيوطه المائية المنحدرة عبر الصخور لتستقر في الأسفل على شكل بركة صالحة للعوم، لكن أغلب الناس يحجون إلى سيد العجائب المائية، شلال أفنسو أو شلال الرحى، وهو اسمه القديم، بما أنّه كان يحوي طاحونة مائية لصناعة الرغيف في منطقة "الكوشة"، إذ يعدّ هذا الموقع الذي يتهافت عليه المئات يوميًا الأكثر استقطابًا للسياح من الداخل والخارج.
كما يمكن ملاحظة عشرات السيارات المركونة في مسلك جبلي ترابي، ما يجبر الجميع نساء وأطفالا وعجائز حتّى، على السير إلى أعماق الوادي عبر مسلك متدحرج بدائي لكنه صالح للاستعمال رغم بعض المشقة للمسنين، ويستغرق الوصول ربع ساعة مشيا على الأقدام، فيمنح ذلك متعة بدنية بما يتخللها من سكينة وهدوء وسط جنان خضراء وأشجار وارفة وسواقي جارية وزقزقة العصافير، ثم الخرير الهادر للشلال الذي يمكن سماعه على بُعد مئات الأمتار.
وجبات زهيدة
عند حافة الشلال غابة كثيفة، وعشرات السياح جلهم عائلات، يجلسون على الكراسي لمطعم هيأه صاحبه خصيصًا للزوار، قبالة مصبّ الشلّال التي تنزل مياهه من أعلى، على ارتفاع يفوق الـ 10 أمتار. كما تشكّل المياه الغزيرة واديا يخترِق الأشجار عبر ممرّ مائي مستمرّ يحفر في طريقه بركا غائرة تمتلئ بالسبّاحين، وهي على شكل بحيرات صغيرة لا يمكن الوصول إليها.
هي مكان للمغامرين، إذ يفضّل الغالبية القفز في واحدة منها، لأنها قريبة وسهلة البلوغ، كما يفضلون وهذا هو الشائع أخذ حمام بارد على الطريقة الإسكتلندية تحت مصبه المباشر رغم البرودة الشديدة وقوة الصفع المحسوس على الرأس والوجه، ويحبذ اعتمار طاقية تجنبا لذلك، مع توثيق المشهد بصورة في أرشيف الذكريات.
ثمّة سبب مباشر يدفع الكثيرين المكوث في أفنسو، فهو يتوفّر على مطعم خاص افتتحته عائلة بورنان القاطنة بالمنطقة، وفي هذا الشأن يقول فاتح بورنان أحد القيّمين على المشروع لـ"الترا جزائر": " أقمنا هذا المرفق منذ عامين، وهو مصمم على شكل بيت جاهز يقدم وجبات ملائمة للزبائن، مثل "البطاطس المقلية مع البيض"، ومشاوى اللحوم والسمك، بالإضافة للقهوة والشاي، والعصائر الباردة، وكل ذلك بأسعار معقولة".
تتراوح أسعار الوجبة ما بين 150 إلى 250 دينار جزائري حسب المكوّنات، بيضًا أو بطاطس أو لحمًا، في حين يبلغ سفود شواء بـ 50 دينارًا. وأما الأطباق فثمن البطاطا المقلية مع البيض فتقدر بـ 250 دينار للوجبة، وسمك السردين المشوي بـ 300 دينار. ولا فرق بين أسعار القهوة والمشروبات الأخرى مع الأسعار السائدة خارج الموقع فهي تتراوح بين 50 و60 و70 دينار.
500 سيارة يوميًا
عن الأقبال الكثيف يشير المتحدث لـ"الترا جزائر": "أنشأنا هذا المطعم والمقهى لتثمين الموقع الذي استطاع أن يستقطب الزبائن، من الزوار على مدار العام وخاصة في فصل الصيف، ففي العام الماضي، سجّلنا توافدًا يوميا قدّر بـ 500 سيارة، وبين الزبائن سياح من تونس ومصر والخليج ودولة قطر وسوريًا، وأمّا اللّيبيون الذين اكتشفوا الوجهة الجزائرية في الأعوام الأخيرة فهم الأكثر حضورًا.
إلى ذلك لا ينسى فاتح المغتبط بازدهار الشلال في الفترة الأخيرة، بدليل نفاذ الأطعمة في أيام الذروة السياحية، إلى الإشارة إلى جملة من النقائص التي طالب المسؤولين البلديين بالالتفات إليها ومنها على وجه الخصوص: " تهيئة حظائر توقّف السيارات الكثيرة، وإنجاز مراحيض، وتعبيد الطريق المؤدي لمنطقة ركن المركبات" ليبقى أهم مشروع يراه قادرا على إحداث ثورة سياحية في كامل المنطقة، هو إنجاز طريق بين دار عيسى و الرملة بطول كيلومترين، كما يلحّ على هذا الأمر قائلًا: "سيسمح ذلك بعملية جذب كبيرة للسياح، ويصبح الشلال وجهة مميزة للآلاف من الزوار، خاصة في المساحة التي تشكّل التقاطع بين واديّ أفنسو والرملة".
هذه المناطق الخلابة أسهمت في تغيير صورة نمطية تكرست طويلًا عن الجزائر في المخيال العربي والدولي
وبالرغم من كل ذلك، إلا أن كثيرين يغامرون في الطريق الوعرة، ففي الأمر جملة محاذير، حيث يقول جمال بن لخضر، الذي يداوم رفقة عائلته، على زيارة أفنسو كل عام لـ"الترا جزائر": " قيمة الشلال في التمتع بمائه البارد بعد مشقة المسير، فهناك تكمن حلاوة المغامرة التي تنتهي بجائزة المتعة بعد معافرة الدّروب، وشخصيًا أفضّل أن يبقى هكذا محافظًا على عذريته الطبيعية، داعيًا إلى ضرورة الإبقاء على نظافته والحفاظ على جماله، كما كان كذلك منذ قرون من الوجود.