هل كان عرّاب ثقافة "الهيب هوب" المهاجر الجمايكي كول هارك، الذّي كان أوّل من غنّى الرّاب عام 1973 في قبو العمارة، التّي كان من ساكنيها في مدينة نيويورك يعلم أنّ هذا الفنّ سيكتسح القارّات الخمس، ويصبح لسان حال شبابها الغاضبين على الأوضاع السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فيتخذون منه، بالإضافة إلى أضلاع الهيب هوب الأخرى، الغرافيتي والبريكدانس والدّيجينغ، مطيّةً للتّعبير عن الذّات والوجود، حتّى صار له "شهداء" مثل توباك أمارو شاكور (1971 ـ 1996) ونوتوريوس بي. آي. جي (1972 ـ 1997)؟
لعبت إذاعة البهجة، ذات التوجّه الموسيقي العصري، دورًا تأسيسيًّا في تكريس أغنية الرّاب داخل الفضاء الجزائريّ
في الجزائر، لعبت إذاعة البهجة ذات التوجّه الموسيقي العصري، التّي تمّ إطلاقها مطلع تسعينات القرن العشرين، في مسعى الحكومة لاحتواء الشّباب، الذّين اكتسحهم المدّ الإسلاميّ، دورًا تأسيسيًّا في تكريس أغنية الرّاب داخل الفضاء الجزائريّ، إذ لم تكتف هذه الإذاعة فقط، ببث أغاني فرق الرّاب ومغنّيه مثل أم بي آس وحامّة بويز وصولو وأسواس بلاد، بل ساهمت أيضًا في إصدار أوّل ألبوم راب حمل عنوان "أولاد البهجة" لفرقة أم بي آس. وإليها أيضًا يعود الفضل في التّعريف بأوّل ألبوم أصدره الثّنائي لطفى ووهّاب دوبل كانون عام 1997 بعنوان "كاميكاز".
اقرأ/ي أيضًا: "طافرٌ من الحرايق".. مروان بوناصر يسرد الحياة في الراب والرواية
بعدها ظهرت وجوه واختفت أخرى. وظلّت ممارسة الرّفض للمفارقات والتّعسّفات والمظالم، التّي تميّز الحياة الجزائريّة، خاصّة في شقّيها السّياسيّ والاجتماعيّ، القاسم المشترك بين كلّ التّجارب، التّي نذكر منها، مع مراعاة تفاوتها في الشّهرة والتّأثير، كريم الكانغ وعزّو وشمسو دي زاد وسولغينغ وحليم آش تي آم.
معظم التّجارب التي حظيت بالضّوء وتفاعل الإعلام وشركات الإنتاج معها تنتمي إلى المدن الشّمالية. فيما اكتفى مغنّو الرّاب في المدن الصّحراويّة البعيدة بمواقع التّواصل الاجتماعيّ، في مفارقة واضحة بين منشأ الرّاب في الفضاء الأمريكيّ، الذّي تولّاه السّود، ومنشئه في الفضاء الجزائري، الذّي غاب عنه الفنّانون أصحاب البشرة السّمراء، رغم أنّ الدّواعي نفسها، من تهميش تجلّى في مختلف القطاعات.
في ظلّ هذا الواقع، بادر نجم الرّاب كريم الغانغ، الذي تحوّل إلى واحد من أشهر المنشّطين التّلفزيونيين، بالتّنسيق مع وزارة الثقافة عام 2017، إلى إطلاق مسابقة "نجم الجنوب"، التّي وصلت إلى المدن الجنوبيّة القصّية، مثل أدرار وتندوف وتمنراست وبشّار وغرداية وورقلة، وأفرزت أصواتًا "رابويّة" تعد بالكثير إن هي وجدت المناخات الرّاعية.
في مدينة أدرار، 1700 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، لم يجد "الترا صوت" صعوبة في التعرّف إلى واحد من هذه الأصوات، فقد كان لباسه وإحساسه وقاموسه واهتمامه "هيبهوبيًّا" من أوّل نظرة ولقاء. ذلك أنّ الهيب هوب في نظره تصوّر للوجود، "ومن الطّبيعيّ والعفويّ أن يُترجم في التّفكير والسّلوك والحركة والهندام والكلام، تماما مثلمًا يحصل لدى المنتمين إلى الحساسيات الأخرى، من باب الانسجام بين التصوّر والصّورة".
حين ولد طارق حاج قويدر، المعروف بتيتو آم سي عام 1997، كانت الجزائر تتهيّئ للخروج من دوّامة العنف والإرهاب. وداخل ذلك التّثاؤب الخاص، فتح عينيه وفمه، "نحن جيل احتاج إلى السّلام وبحث عنه منذ أيّامه الأولى، فقد كبرنا خائفين ومتخوّفين حتّى من أنفسنا وأقرب النّاس إلينا، بالموازاة مع حرماننا من أبسط الحقوق والرّغبات، كأن تجد أرجوحةً أو مسبحًا أو حديقةً أو فاكهةً غير مدغولة. وإذا كان لطرف فضل عليّ في أن أصبح شغوفًا بالفنّ وممارسًا له ومضحّيًّا من أجله، فهو الحرمان في صوره وتمظهراته المختلفة".
دفعني هذا الإحساس بالحرمان، يقول محدّث "الترا صوت"، إلى أن أتفوّق في دراستي، فقد كنت أسمع الجميع يقول لي "اضمن مستقبلك بالدّراسة"، ثمّ تفرّع اهتمامي إلى رياضة الجمباز، إذ كنت أجد فيها سبيلًا لإفراغ طاقاتي السّلبية، التّي فرضتها عليّ طبيعة المكان، غير أنّ خلوّ مدينتي من أيّ فضاء يساعدني على الذّّهاب فيها بعيدًا أرغمني على تركها مبكّرًا. نحن أيضًا جيل كبر مرغمًا على أن يتخلّى عن أحلامه سريعًا، أو يخاطر من أجلها بركوب البحر إلى البلدان السّعيدة".
الحلم الوحيد الذّي لم تستطع الظّروف الصّعبة والإمكانيات القليلة والإكراهات المختلفة أن ترغم طارق حاج قويدر على أن يتخلّى عنه هو البريكدانس والرّاب، "لأنّه تجاوز كونه حلمًا إلى كونه طريقًا للاحتجاج والرّفض وإشهار كلمة "لا" في أوجه المنظومات المختلفة المسؤولة عن الأوضاع البائسة. "ثمّة أوقات يتحقّق فيها وجودنا بقول هذه الكلمة، ووجدت فنّ الرّاب أكثر الوسائل نجاعةً في تحقّق وجودي".
وضع هذا الخيار محدّث "الترا صوت" أمام جملة من التحدّيات، منها إقناع أسرته به، "فالوالد يسبّق أولوية حمايتك من المجتمع ومن ردود أفعاله الرّافضة، على أولوية تحقيق أحلامك الفنّية، في بيئة يحتاج فيها الشّاب إلى شجاعة كبيرة لخلع العمامة وتعويضها بقبّعة والعباءة وتعويضها بسروال جينز والبلغة وتعويضها بحذاء رياضيّ، أمّا الذّهاب إلى زاوية مهملة لتعلّم الموسيقى وممارسة الرّقص، عوضًا عن الذّهاب إلى الكتّاب لتعلّم القرآن والعلوم الشّرعيّة، فهو مجلبة لأحكام قد تنسف احترام المحيط لك".
الجنوب الجزائري لم يبق ذلك الفضاء المغلق على صفة "المحافظ"، بالنّظر إلى جملة من التّحولات الموضوعيّة فيه
غير أنّ الجنوب الجزائري لم يبق ذلك الفضاء المغلق على صفة "المحافظ"، بالنّظر إلى جملة من التّحولات الموضوعيّة، منها انخراط الجيل الجديد في الوسائط ومواقع التّواصل الجديدة، ممّا أوجد لطارق حاج قويدر ومن يحمل الشّغف الفنّيّ نفسه، مشجّعين ومتذوّقين لفنّه من الشّباب، الذّين شرعوا في افتكاك مواقع لهم وفرض توجّهاتهم، حتّى أنّ واحدة من بنات مدينته افتكّت لقب ملكة جمال الجزائر لعام 2019. "لقد بدأنا ننجح في إقناع المحيط بأنّ ممارستنا للفنون لا تعني تخلّينا عن الأصول والأخلاق كما هو شائع، بل إنّنا نستعمل الفنّ للتّعبير عن الرّوح الجزائريّة نفسها".
اقرأ/ي أيضًا: ساري.. الراب ضدًّ الحصار
يقول طارق حاج قويدر، الذّي يستعدّ في مارس/ آذار الدّاخل للتّخرّج من المعهد الوطنيّ المتخصّص في التّكوين المهنيّ بشهادة في الآليات والضّبط، إنّ المدينة تفتقر إلى استوديو محترف للتّجسيل، حتّى داخل المؤسّسات الثقافية والشبّانية. وإنّه يضطرّ إلى تأجير كاميرا لتسجيل فيديوهاته، في ظروف أقرب إلى الهواية منها إلى الاحترافيّة، "وهذا ما جعلني لا أسجّل إلا أربعة كليبات، اشتهر منها كليب "وعلاش؟" و"الأم". يختم: "لم نعد نطالب الحكومة بأن تعطينا شيئًا، بل نطالبها فقط بألّا تستمرّ في القول إنّ الشّباب عماد المستقبل، لأنّها لم تمنحه ما يجعله كذلك".
اقرأ/ي أيضًا: