تعتبر الجزائر من بين الدول الداعمة لمبدأ رعاية الحقوق الاجتماعية، إذ خصّصت الحكومة في السنوات الأخيرة، ملايير الدولارات لقطاع السكن فقط، غير أنّ هذه النفقات لا تعبّر عن واقع الحال، وتبقى بعيدٌ تمامًا عن لغة الأرقام التي يتشّدق بها مسؤولو القطاع، إذ أن احتجاجات كثيرة تشهدها ولايات الوطن، تقف وراءها أزمة سكن خانقة؛ إما بسبب تأخّر مشاريع العمران أو فشلها، أو إقصاء عائلات من برامج السكنات وخضوع عمليات التوزيع للمحسوبية والمحاباة، وإمّا للمطالبة بالترحيل بسبب تهديد البنايات الهشّة والآيلة للانهيار.
تشكّل البنايات التي تعود إلى الحقبة الفرنسية أغلب واجهات المدن الجزائرية الكبرى
تشكّل البنايات التي تعود إلى الحقبة الفرنسية أغلب واجهات المدن الجزائرية الكبرى، إذ يتجاوز عددها 2 مليون وحدة سكنية موزّعة على عدد من ولايات الوطن، خاصّة المدن الساحلية مثل العاصمة وعنابة وقسنطينة ووهران، تتميّز بطابعها الهندسي الأوروبي، وتحتفظ بهويّتها التي تعود إلى المرحلة الكولونيالية، وقد يتجاوز عمر بعض هذه البنايات 150 سنة.
اقرأ/ي أيضًا: العمران الجزائري.. تراث مضيّع وحداثة مستعجلة
تشكّل العمارات التي شيّدت في المرحلة الاستعمارية، تهديدًا حقيقيًا في كثير من الأحيان للسكّان وللمواطنين أيضًا، إذ أن غياب ثقافة الترميم والصيانة، والظروف الطبيعية مثل المناخ الرطب والزلازل، ساهمت بشكلٍ كبير في تدهور حالة هذه العمارات، إذ سًجلت في السنوات الأخيرة عدّة وفيات، كان سببها انهيارات جزئية في هذه العمارات، أو سقوط شرفاتها على المارّة.
ثقافة الصيانة
ليست السكنات القديمة فقط ما تكون عرضة للانهيار والتصدّعات، فحتى السكنات الجديدة أيضًا تهالكت بسبب الإهمال، إذ أن ثقافة صيانة وترميم السكنات ذات الطابع العمراني الجماعي، تبدو غائبة تمامًا في المجتمع الجزائري، إذ يعتقد كثيرون أنّ أشغال الصيانة تتكفّل بها سلطات قطاع السكن أو البلدية، ولذلك يتمّ اللجوء في كل مرّة إلى الاحتجاجات بسبب الأضرار التي تُصيب هذه البنايات. هذا ما لمسته "الترا جزائر" أثناء تجوّلها في حيّ السعادة بمنطقة المدنية أعالي العاصمة.
في السابق، كان ينتظر أن يحدث عطب ما في بيته حتى يتوجّه إلى السمكري أو البناء أو حتى الصبّاغ، ولكنّه لم يعد ينتظر ذلك بعد أن تنقّل إلى سكنه الجديد يقول عبد الرحيم صاولي (65 سنة) أحد قاطني الحي في حديث إلى "ألترا جزائر"، إذ بدا محدّثنا متحسّرًا من تجربته السابقة التي كلّفته نفقات كبيرة صرفها في أشغال الترميم، يستطرد قائلًا: "الصيانة معناها تفقّد كل شيء في البيت، كل ستة أشهر إلى سنة على الأكثر، وخصوصًا أنابيب الغاز والكهرباء والمياه".
انهيار بطيء
بات من الصعب اليوم، طرح فكرة صيانة السكنات الجماعية أو العمارات على المواطنين، هكذا يصف صاولي ما يعيشه يوميًا في حيّه، موضّحًا أن المخيال الجمعي، لا يعترف بضرورة إصلاح الأشياء إلا بعد تعطلها، مستشهدًا بفكرة أن المواطن لا يذهب إلى الطبيب إلا إذا كان مريضًا، ولا يقوم بصيانة سيارته إلا إذا توقّفت تمامًا، ويعتقد المتحدّث أن المشكلة باتت ثقافية، ويجب ترسيخ فكرة الصيانة في الأوساط الأسرية على حدّ تعبيره.
صيانة المنازل، تعني تفقّد أنابيب الماء والغاز وأسلاك الكهرباء، وتفقد الشرفات أيضًا، علاوة على طلاء دوري للسكن من الداخل والخارج، بالاتفاق دائمًا مع سكان العمارة لمباشرة هذه الأشغال في الوقت نفسه، ولكن غالبًا ما تكون هذه العملية من وظيفة السلطات المحليّة، خصوصًا في العمارات التابعة للبلدية بمختلف صيغها، غير أن بعض سكّان العمارات لجأوا إلى تأسيس جمعية العمارة، إذ يتكفّل رئيس الجمعية بوضع مخطط لانشغالات السكان وجمع مصاريف الصيانة، بحسب محمد بن حرود، أحد المشرفين على الجمعية، في حديث إلى"الترا جزائر".
يقول محدّثنا الذي يقطن بحي درارية بالعاصمة، إنّه خلال تجربته لمدّة سنتين اصطدم مع مواطنين يعترضون على صيانة العمارة والسّكنات أيضًا، خصوصًا إذا تعلّق الأمر بدفع مساهمات مادية، إذ "أصبح تجميع مبلغ كاف لطلاء وتزيين العمارة، مشروعًا ضخمًا بالنسبة لبعض الساكنين، فما بالك بجمع مبالغ مالية لصيانة الأنابيب أو ترميم التشقّقات أو غيرها من المتطلّبات التي يتكبدها المواطن، ممن استفادوا من سكنات منذ أزيد من عشرين سنة".
مواطنون يسكنون التاريخ
السكنات القديمة، خاصة تلك التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية، والتي تقع بالمدن الكبرى مثل العاصمة، ووهران وقسنطينة وعنابة، تحظى بمتابعة السلطات المحلية، إذ باشرت في السنوات الأخيرة في عملية ترميمها للحفاظ على الطابع العمراني لهذه المدن، وهو ما يؤكّده الخبير العقاري محمد حساني لـ" الترا جزائر"، مشيرًا إلى أن أهمّ العوائق التي تواجه السلطات هي صعوبة ترحيل السكّان من هذه الأحياء، خاصة منها الأحياء العريقة والأثرية في دائرة باب الوادي والجزائر الوسطى وحي بلكور العتيق.
ويُرجع حساني هذه العراقيل، إلى الإمكانيات المحدودة للسلطات، إذ تتطلّب عملية ترحيل السكان بالضرورة، سكنات جديدة جاهزة أخرى لتعويض المرحّلين، وهو ما يصطدم بمشاريع السكنات المتوقّفة في الوقت الحالي على حدّ قوله.
في مقابل ذلك، يُشير المتحدّث إلى أن عمارات حيّ باب الواد، وشارع حسيبة بن بوعلي، وديدوش مراد، وغيرها من الأحياء ذات البنايات القديمة، باتت تشكّل خطرًا محدقًا على المارّة أيضًا، مشدّدًا على ضرورة اتخاذ إجراءات استعجالية؛ تتمثل أولًا في تحديد حجم الخطورة التي تشكّلها هذه العمارات لتضعها في الخانة الحمراء، قبل البدء في عمليات الترميم، يضيف حساني.
مسألة حياة أو موت
عقب زلزال 2003 الذي ضرب العاصمة وولاية بومرداس، صادقت السلطات على قانون رقم 04-05 المؤرّخ في 14 أوت/ أغسطس 2004 المعدّل والمتمم للقانون 90-29 المؤرّخ في الفاتح ديسمبر/ كانون الأوّل 1990والمتعلّق بالتهيئة والتعمير، لمعاينة ومراقبة السكنات والبنايات القديمة، هنا يؤكّد الخبير المعماري ورئيس المهندسين الجزائريين عبد الحميد بوداود لـ"الترا جزائر"، أن العملية مسّت سبع بلديات بالجزائر العاصمة، وهي الحراش، باب الوادي، بلوزداد، الجزائر الوسطى، القصبة، سيدي امحمد والمدنية.
بعد عشر سنوات سنوات كاملة منذ صدور القانون، أحصت الدائرة المحليّة لتلك البلديات، أكثر من 15 ألف بناية قديمة، من بينها 220 بناية تتطّلب الترميم بطريقة استعجالية، أو الهدم بسبب وضعها الخطير، بسبب الفترة الزمنية الطويلة على تشييدها، وعامل الهزات الأرضية المتتالية على المنطقة.
رغم الإحصائيات والأرقام والتحذيرات المقدّمة، يبقى هذا المشروع حبرًا على ورق يقول المهندس بوداود ويعتبر أن عملية الترميم التي انطلقت عبر هذه البلديات، تقدّر بنسبة خمسة في المائة من كامل الحظيرة السكنية في العاصمة، إذ أن الوتيرة البطيئة التي يسير بها، من شأنها أن تتسبب في سقوط العديد من الضحايا خاصة في المناطق الواقعة على الشريط الزلزالي على حدّ تعبيره.
سكنات أم مراقد؟
ظاهرة أخرى يعيشها سكان المدن الكبرى، إذ أن أغلب الأحياء لا تتوفّر على فضاءات عمومية، مثل الساحات والحدائق والمسابح وغيرها، هنا يقول الطالب الجامعي بكلية العلوم والتكنولوجيا بمنطقة باب الزوار بالعاصمة عبد الهادي مخلوفي في حديث إلى "الترا جزائر"، إن أغلب المدن التي شيّدت خلال السنوات الأخيرة أصبحت بلا روح لانعدام الفضاءات الترفيهية والتثقيفية على حدّ قوله.
غياب الفضاءات العمومية في الأحياء السكنية جعلها تتحوّل إلى مراقد
في السياق نفسه، يرى متابعون، أن الحكومة الجزائرية كانت تخطط لحلّ معضلة السكن بأسرع وقت ممكن، دون الالتفات إلى متطلّبات المواطنين، مثل المساحات الخضراء والملاعب الجوارية والمسارح والمسابح وغيرها، وهو ما انعكس اليوم على ذهنيات السكّان وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية، إذ أصبحت هذه السكنات مجرّد مراقد فقط للنوم، بدل أن تشكّل لهم أماكن للاستقرار النفسي والاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا:
القصبة العتيقة تنهار.. الإنسان والتراث مهددان في الحي الأثري