19-ديسمبر-2022

فرانز فانون (الصورة: YARD.MEDIA)

تمر هذا السنة الذكرى الـ 61 لرحيل المفكّر فرانز فانون، المقاوم والمتمرد والرمز النضال الإنساني والكوني، وما تزال نصوص فانون تلقى أهمية بالغة في الحقل الفلسفي والتاريخي، خصوصًا في الدراسات الكولونيالية، فلقد رافق فانون التحليل النفساني من موقع طبيبٍ قريبٍ من الأهالي، فضلًا عن انضمامه إلى صفوف الثورة الجزائرية التحريرية.

مشاركة فانون في الثورة الجزائرية جعل من كتاباته مرجعية في فهم الأبعاد الكولونيالية والاستعمارية

هذه المشاركة في الثورة، جعلت من فانون مرجعية في فهم الأبعاد الكولونيالية والاستعمارية،وإدراك نفسانية الشعوب المقهورة، حيث استقطبت أفكاره كافة الحركات التحريرية في العالم العربي والآسيوي والأفريقي وأميركا اللاتينية، ولقد أسس فانون مفاهيم تمحورت حول عنف المستعمِر والعنف المضاد (الثورة)، من أجل الحرية والانعتاق من العبودية، وباتت اليوم مقاربات ونصوص فانون محل اهتمام الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية.

المولد والنشأة

ولد فرانز فانون في 20 تموز/جويلية سنة 1925 في فور دو فرانس بجزيرة المارتينيك، الواقعة في بحر الكاريبي، والتي تمثل جزءًا من أراضي ما وراء البحار الفرنسية، حيث نشأ وسط عائلة متعلمة وميسورة الحال، إذ اشتغل والده في قطاع الجمارك،  بينما كانت والدته تزاول النشاط التجاري، وكان فرانز الخامس في الترتيب بين ثمانية إخوة وأخوات، حرصت عائلته منذ البداية على تلقين أبنائها التعليم الجيّد.

درس فانون في مسقط رأسه، وعُرف عنه حب المطالعة وشغف القراءة وقوة الحفظ، نال الشهادة الثانوية والتحق بعدها بالكتيبة الخامسة من قوات فرنسا الحرة سنة 1943، وفي عام 1944 وخلال أجواء الحرب العالمية الثانية أبحرت الكتيبة إلى شمال أفريقيا، أصيب خلال مشاركته الحرب ضد القوات الألمانية في الحدود السويسرية، وفي سنة 1945 بعد نهاية الحرب سرُح من الجيش الفرنسي بسبب الإصابة.

الوعي والتمييز العنصري

شكلت مشاركة فانون في الحرب العالمية الثانية منعرجًا حاسمًا في حياته الفكرية ومسيرته المهنية والنضالية، إذ أدرك وعايش التمييز العنصري بين أصحاب البشرة البيضاء والسودـ وتنبه إلى الوضع المقهور للشعوب المٌستعمَرة.

سمحت له منحة الإصابة والمشاركة في الحرب العالمية الثانية بجانب القوات الفرنسية من الانتقال إلى مدينة ليون الفرنسية لدراسة الطب، وهناك بدأ نشاطه الطلابي، ومشاركته وتعرفه على الأوساط الأدبية والحركات الثقافية والفلسفية.

الجزائر

مباشرة بعد تخرجه من كلية الطبّ، رغب فانون في العودة إلى المارتينيك، لكن القدر رماه باتجاه إلى الجزائر، وانتقل إليها في شهر كانون الأول/ديسمبر من سنة 1953، واستقر في مدينة البليدة غرب العاصمة واشتغل بمستشفى المدينة.

لقد أتاحت ممارسة الطب النفسي من طرف فرانز فانون واحتكاكه بالمرضى من معاينة وتشخيص الأبعاد النفسية والعصبية للمرضى، وأدرك انعكاسات الوضع الاستعماري والتمييزي على الصحة العقلية والنفسية عند الأهالي، وخلص فانون أن الظاهرة الكولونالية مثل الوباء والطاعون تَمُس الفئات المجتمعية المقهورة في السلامة الجسدية والعقلية نتيجة الاستيلاب والسلب والنهب باسم الحضارة، كما دراسة العلاقة  بين المُستعمَر والمستعمِر بشكل عميق.

استنتج فانون أن الشعوب المستعمَرة قد دُمّرت كافة قدراتها الفكرية نتيجة تفكيك نسيجها الاجتماعي وتحطيم البنية الأسرية والعائلية والعشائرية، واستنبط فانون أيضًا الآثار الهدامة لهيمنة المستعمرين على البسطاء والضعفاء من الأهالي ومعاناة المستعمَرين، فالفكر الكولونيالي،حسبه، قائم على التمييز والتفريق بين البشر والاستعباد والهيمنة والأنانية والسيطرة والتفوق بفعل الترهيب والتخويف والتعذيب النفسي والجسدي، والاضطهاد وممارسة العنف والقانون وفق مبرر الهيمنة الاستعمارية والغربية.

التواصل مع الثورة

وانطلاقًا من تجربة فانون في دراسة الحقل الكولونيالي والتركيز في فهم أبعاده التدمرية، بدأ بالتواصل ومراسلة أعضاء من جبهة التحرير الوطني، وتعبيرًا على تضامنه مع الأهالي والثورة التحريرية قدم استقالته من مهنة الطب، معربًا عن سخطه من الممارسات الاستعمارية ومتضامنًا مع من اختار التمرد والعصيان.

التحق فرانز فانون بجبهة التحرير الوطني بتونس، مباشرة بعد قرار السلطات الفرنسية طرده من الجزائر، وتعرف هناك على الفريق الإعلامي لصحيفة "المقاومة الجزائرية"  التي سميت لاحقًا بـ "المجاهد"، على رأسهم محمد الميلي، عبد الله الشريط، منور مروش طبعة اللغة العربية، أما رضا مالك وبيار شولي ومحمد صديق بن يحيى، عمر أوصديق وتمام عبد المالك بالنسبة للطبعة باللغة الفرنسية.

انتقل بعدها إلى مدينة تيطوان بالمغرب رفقة محمد الميلي لإشراف على إصدار صحيفة "المجاهد" لسان حال جبهة التحرير الوطني، في تشرين الأول/أكتوبر 1975 تحول المقر الرسمي للجريدة المجاهد في العاصمة تونسية، حيث استقر فانون رفقة فريق العمل الصحفي، زوال فانون مهنة الطب بمستشفى في تونس.

 في مهمة عولمة الثورة

كُلّف فانون من طرف الثورة في مهمات دبلوماسية تمثيلية في بلدان أفريقيا، وشارك في 1958 في أول ندوة أفريقية في عاصمة جمهورية غانا، تعرف خلالها على قادة الثوار على غرار باتريس لومومبا المناضل الكونغولي، وفليكس رولاند موميه وهو طبيب وسياسي كاميروني ومفجر الثورة الاشتراكية في عمق أفريقيا، زيادة على أعضاء من الحركات التحررية في كينيا وأنغولا وغيرها.

تمحور خطاب فانون حول القوى الإمبريالية والاستعمارية ومعاناة الشعوب المستعمَرة، والتحولات والرهانات التي تعيشها المجتمعات المقهورة أمام استئصال قيمها وبيئتها وراء تسميات بالحضارة الغربية، وتحدث عن ضرورة تحرير الفرد الأفريقي والآسيوي من هيمنة العنصر الأوروبي والغربي.

المعذبون في الأرض

قبل أن يرحل فانون إلى مثواه الأخير، كتب آخر مؤلفاته "المعذبون في الأرض"، الذي سجل فيه عصارة وثمرة مسيرته الفكرية والفلسفية ورؤيته للعالم الثالث، ويعد الكتاب مرجعًا أساسيًا في فهم ظاهرة الاستعمار والاغتراب وعلاقة المستعمر والمستعمر.

دعا فانون إلى استخدام العنف المشروع، وشرعن استخدام العمل المسلح والثوري من أجل التحرر من العبودية والهيمنة والاستبداد والتمييز العنصري، وتمكن فانون من عولمة الثورة الجزائرية عبر إبراز دوافعها وخصائصها ومالاتها وضرورة تآزر الشعوب الأفريقية والآسيوية أمام القوى الإمبريالية والغربية.

أبرز أعمال فانون

رغم عمره القصير، صدر لفرانز فانون عدة أعمال حول الثورة والإستعمار والهيمة الإمبريالية، أهمها: "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، نشر عام 1952، "العام الخامس للثورة الجزائرية"، نشر عام 1959، "المعذبون في الأرض"، نشر عام 1961، "من أجل الثورة الأفريقية"، نشر عام 1964، "نصوص حول الاستلاب والحرية- مجموعة أعمال صدر عام 2011"، و"نصوص حول الاستلاب والحرية- مجموعة أعمال 2 صدر عام 2018".

دعا فانون إلى استخدام العنف المشروع، وشرعن استخدام العمل المسلح والثوري من أجل التحرر من العبودية والهيمنة والاستبداد

توفي فانون في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1961 بالولايات المتحدة متأثرًا بسرطان الدم عن عمر ناهز 36 عامًا، ونقل جثمانه إلى تونس ومنها إلى الأراضي الجزائرية، حيث دفن في مربع الشهداء بعين الكرمة في منطقة الطارف شرق الجزائر.