ما أن تُعلن نتائج البكالوريا/ الأهليّة العامّة في الجزائر، بعد شهر من التّقييم والمداولات، حتّى يُفتح المجال للحاصلين على الشّهادة لاختيار التخصّص الجامعي. كان ذلك يتمّ عن طريق قسيمة تُسلّم في المؤسّسات الجامعيّة، ثمّ صار إلكترونيًّا، من خلال موقع وزارة التّعليم العالي والبحث العلميّ، في إطار مسعاها إلى تطوير خدماتها.
يحرص قطاع واسع من طلبة الطّور الثّانوي على اجتهاد خاصّ ليظفروا بمعدّل يُؤهّلهم للالتحاق بتخصّص الطبّ
تُراعى عدّة معطيات في الاستجابة لرغبة الطّالب، منها المعدّل الذّي حصل عليه في البكالوريا، إذ تختصّ كلّ شعبة بمعدّل معيّن، ومدى توفّر التخصّص المطلوب في النّطاق الجغرافي الذّي يقيم فيه، في ظلّ توسّع الخارطة الجامعيّة، حيث باتت الولايات الـ48 تتوفّر على مؤسّسات جامعيّة.
اقرأ/ي أيضًا: هراوات الحكومة تلوّن مآزر الأطباء بالدماء في الجزائر
يأتي الطبّ في طليعة التخصّصات، التّي تتطلّب معدّلًا عاليًا، في الشُّعب العلميّة، إذ لا يُقبل فيه طالب قادم من شعبة أدبيّة أو حاصل على معدّل يقلّ عن 16.93 من 20 لشعبة تقني رياضي، 16.28 لشعبة رياضيات، و16.97 لشعبة العلوم التّجريبيّة. كما يأتي في طليعة التخصّصات الجامعيّة، التّي تحظى بشغف الحاصلين على معدّلات مرتفعة.
من هنا، يحرص قطاع واسع من طلبة الطّور الثّانوي على اجتهاد خاصّ ليظفروا بمعدّل يُؤهّلهم للالتحاق بتخصّص الطبّ. ويجدون من عائلاتهم تشجيعًا خاصًّا. فهي ترى في ذلك هديّة خاصّة من أبنائها لها، وتكون طريقة احتفالها بهم مختلفةً عن احتفال العائلات، التّي وُجّه أبناؤها إلى تخصّصات أخرى، حتّى وإن كانت ذات منفعة عامّة.
يقول الجامعيّ خالد كار لـ"الترا جزائر" إنّه تنتج عن هذه النّظرة الاجتماعيّة العامّة إلى تخصّص الطبّ إكراهات وتعسّفات، قد تؤدّي إلى فقدان الطّالب، الذّي يملك ميولاتٍ مختلفةً لشهيّة الدّراسة، فيخسر مستقبله العلميّ أو يتخرّج بخبرة هزيلة، فيضرّ أكثر ممّا ينفع".
ويوجّه نصيحة للأولياء بالقول: "لا ترغموا أولادكم على تخصّص لا يحبّونه، فالتّخصصّات تتكامل ولا تتفاضل. وهدفها خدمة المجتمعات". يسأل: "لماذا ترغم بعض العائلات أبناءها على الالتحاق بالطبّ، فيما قد يكونون راغبين في تخصّصات أخرى حلموا بها وأعدّوا لها منذ صغرهم؟".
تأتي الإجابة من النّاشط عبد الحميد براهيمي: "يختار الأولياء لأبنائهم المتفوّقين تخصّص الطبّ في الجامعة فقط ليخرجوا أمام المجتمع ويعلنوا عن ذلك الفخر الكبير: ولدي طبيب". يشرح فكرته: "مثلما يكرّس التّفاخر الاجتماعيّ نوعًا معيّنًا من السّيّارات والألبسة والمأكولات، على أنّه رمز للوجاهة والرّفاه، يكرّس تخصّصاتٍ جامعيّة معيّنة".
ويرجع الطّبيب والنّاشط الإنسانيّ ياسين عبد الجبّار هذه النّظرة الاجتماعيّة الخاصّة إلى تخصّص الطبّ في الجزائر إلى السّياق التّاريخيّ المرتبط بالفترة الاستعماريّة الفرنسيّة، والسّنوات الأولى للاستقلال الوطنيّ. يقول لـ"الترا جزائر": "كان العلاج الطبّيّ العصري حكرًا على الفرنسيّين والمستوطنين، فيما كان الجزائريّون يعالجون تقليديًّا. وهو المعطى الذّي جعلهم ينظرون إلى الطّبيب نظرة إعجاب وتقدير".
بعد الاستقلال الوطنيّ عام 1962، يقول ياسين عبد الجبّار، كان عدد الأطباء قليلًا جدًّا، فأبقت ندرتهم على النّظرة الشّعبيّة نفسها للطبّ والمشتغلين فيه، حيث كانوا يمثلون نخبة المجتمع وزبدته. وكان المخيال الشّعبيّ يثمّن نظافتهم وثقافتهم ووجاهتهم ودورهم في ثورة التّحرير، التّي كانت تضمّ في صفوفها وجوهًا طبّية بارزة، مثل لمين دبّاغين وفرانز فانون ومحمّد تومي وعلجيّة بن علّاق نور الدّين.
وهي النّظرة التّي بقيت موروثة حتّى اليوم، يضيف محدّث "الترا جزائر"، رغم أنّ التّغطية الصّحّية باتت لافتة للانتباه، إذ لا يخلو تجمّع سكني، مهما كان صغيرًا من مؤسّسة استشفائيّة حكوميّة مجّانيّة، ومن طبيب خاصٍّ بأسعار معقولة.
سألناه عن دور البعد الماديّ في تكريس هذه النّظرة وفي استمرارها، من منطلق أنّ الطّبيب يُحصّل مالًا كثيرًا، خاصّة إذا كان متخصِّصًا، فقال إنّه يستبعد هذا المعطى، "لو كان الأمر يتعلّق بالجانب الماليّ، لحظيت التخصّصات، التّي تدرّ أيضًا مالًا معتبرًا على ممتهنها، مثل الهندسة المعماريّة، بالتّقديس والتهافت نفسيهما".
التحق قطاع واسع من الأطباء بالنّشاط السّياسيّ والنّقابيّ والإنسانيّ العامّ
يشار إلى أنّ الجيل الجديد من الأطبّاء الجزائريّين خرج، في السّنوات الأخيرة، من العزلة التّي يتميّز بها الطّبيب الجزائريّ، والتحق قطاع واسع منه بالنّشاط السّياسيّ والنّقابيّ والإنسانيّ العامّ. وهو المعطى الذّي جعلهم يصطدمون بالحكومة في أكثر من مرّة، كانت آخرَها عام 2017، حيث شنّ الأطبّاء الميقيمون إضرابًا عامًّا دفاعًا عن جملة من الحقوق، ويمكن اعتبار ذلك ضمن الخطوات الممهّدة للحراك الشّعبيّ، الذّي انطلق قبل ستّة أشهر.
اقرأ/ي أيضًا: