05-أكتوبر-2024
حارس تبردقة وكنوز زعيم قبائل المور بخنشلة

حارس تبردقة وكنوز زعيم قبائل المور بخنشلة ( صور: الترا جزائر

في بلدية ششار جنوب ولاية خنشلة، شرقي الجزائر، تميط الطبيعة القاسية اللثام عن كنوز مخفية في أعماق وادي بجّر الذي يخترق التضاريس شبه الصحراوية على مسافة 30 كيلومرتا بدء من تبردڤة وانتهاء بقرية الميتة.

المنازل المشيّدة فوق أدراج ذات شكل متصاعد و تعلو قمتها التي تبدو مثل عشّ طائر 

لكن الحياة، هنا، ليست ميّتة على الإطلاق، فمرافقي حسين بوترعة، رئيس جمعية محلية مهتمة بالثقافة والسياحة رجل نذر نفسه ليعيد الحياة الغابرة لهذه المنطقة التائهة بين التل والصحراء، عبر متحف أنشأه في قرية الوندورة، وهي واحدة من سبع بلدات تترامى على أطراف الوادي، الذي يسمى أيضا " أغزر أزيزا"، أي الوادي الأخضر، والسبب أنه دائما ما يكون حيًّا ببساتين التين والرمان وواحات النخيل وأشجار الزيتون التي تعود غراستها لألفي عام.   

حسين بوترعة، رئيس جمعية محلية مهتمة بالثقافة والسياحة

حِصنُ يَبْدَاسْ

يتدحرج الوادي الأخضر في مسار ثعباني في قلب تضاريس صخرية، واقعة بين اللونين الأرجواني والغضري، ليفتتح المشهد على قرية عجيبة، تسمى تبردڨة، وهي ذات شكل أسطواني من الأسفل حتى لكأنها تبدو منحوتة في الصخر.

كما تبدو البيوت المتوحّدة مع لون الصلصال والتراب، كما لو أنّها في بئر، كما تبرز منازل مشيّدة فوق أدراج ذات شكل متصاعد، في حين تعلو قمتها التي تبدو مثل عشّ عقاب بناية أثرية قديمة تتخذ شكل مسجد بُني بهندسية قريبة من المعمار البيزنطي، وبالقرب منه هيكل بناية يطلق عليها السكان اسم برج القائد، وهي في الأصل قلعة قديمة جعلها الفرنسيون دار للبلدية المختلطة المتأسسة في ثلاثينيات القرن الماضي.

يقول رئيس هيئة جمعوية تسمى التجمع الريفي للوندورة، حسين بوترعة لـ"الترا جزائر":" الانتشار السكاني في هذه المناطق عريق جدا، لكن اللافت في تبردڨة أن بعض التسميات تطلق عليها كنية قسنطينة الصغرى، فشكلها يشبه مخانق سيرتا القديمة، كما أن نقيشة حجرية تحتوي قبة منسوبة للولي الصالح سيدي راشد الذي طاف على ما يبدو بهذه الربوع، وقد دفن في ضريح شيّد له هنا العام 1915، كما تدل عليه القبة الظاهرة في مدخل البلدة ".

ويعني اسم "تبردڤة" في اللغة الأمازيغية الشاوية حدوة الحصان، ولا غرو فإن شكلها الدائري يشبه تماما تلك القطع المعدنية التي تثبت أسفل قوائم الأحصنة والمعروفة شعبيا بلفظة " التسميرة"، لكن الباحث عبد الكريم غزالي، ابن المنطقة، يؤكد في الكتاب التوثيقي "أحكِ لي الأوراس"، لمؤلفه رشيد حماتو ما يلي: " تبردڨة القديمة المسماة أبليت أو قلعة التراب شيّدت من طرف قبائل وادي بلبار في مرتفع صعب المنال، وهي في الأصل مخازن مؤن وغلال تفرد لكل قبيلة على حدى، لكن حراستها شأن يتداوله الجميع، كما أن تبردڤة كانت موجودة حينما قاد الملك يبداس زعيم قبائل المور الحرب ضد جيوش بيزنطة التي قادها الجنرال سالومون ضد مقاومات سكان جنوب الأوراس العام 539 ميلادية".

أما الباحث الفرنسي بيار موريزو فيُجزم بأن القرية كانت معقلاً من معاقل الملك المنتفض ضد الاحتلال البيزنطي وكانت تسمى تومار.

 

خنشلة 5

بُيوتٌ مُعلّقةٌ

صنف الفرنسيون تبردڤة موقعا طبيعيا خلال العام 1928، لكن ورغم مرور قرابة القرن من هذا التصنيف الذي تعزز وطنيا من قبل لجان ثقافية مختصة، تبدو تلك الآثار والشواهد الدالة على تعاقب الرومان والبيزنطيين والفترة الإسلامية في القرن العاشر، ثم العصر العثماني، في حالة نسيان، وأشدّ حاجة إلى رعاية وتهيئة، لذا يعقب حسين بوترعة لـ"الترا جزائر": " لهذا الغرض أنشأت هذا المتحف الذي أنجزته من أجل الحفاظ على الميراث الثقافي الزاخر الذي تمتعت به القرى السبع، تبردڨة، ومزيّن، و تاغيت، والزاوية، والعامرة، و الوندورة، وسيّار، كي لا يضيع ويحفظ ولو بصريا، فقد كانت هذه القرى فيما مضى عامرة بالحرف و الأعراس و التويزة و مجالس الترفيه الاجتماعي و اللعب الشعبية".

كما نحتت في جبل يحيط بقرية تاغيت؛ عدة بيوت، بنيت بين فلوج وعرة، لذا تبرز لك من بعيد كما لو أنها نوافذ أو كُوّات. تعرف هذه المنازل بتسمية البيوت المعلقة، ما يرجح على حد تعبيره، أن تكون مخازن قلاعية للمؤونة بالنظر لكونها لا تتسع لأجسام البشر، ويشرح في هذا الخصوص: " في تبردڨة الواقعة أسفل الوادي يمكنك أن تشاهد بساتين تعلو المساكن، وتسمى البساتين المعلقة، وما تراه في تاغيت هي بيوت تخزين معلقة لا طريق لها، والوسيلة الوحيدة للوصول إليها هي استعمال الحبال، إن الأمر شبيه بما نلاحظه في ملجأ الكاهنة في هاجمينت".  

خنشلة 2

قِصَّةُ الشَكِيمَة

قبل أن ينشئ حسين بوترعة ملجأه التراثي في البيت الذي ولد فيه في الوندورة، كان الرجل ضابط صف في صفوف الدرك الوطني بين أعوام 1988 و2016، وقد منح له التقاعد فسحة كبيرة من الوقت كي يكرّسه في تأثيث هذا المتحف قطعة فقطعة، وثمة لحظة فارقة أخذته إلى هذا الخيار المتناغم مع شغفه بالتاريخ والتراث منذ الصغر، إذ يكشف لـ"الترا جزائر": " كنت واقفا ذات مرة في عتبة هذا المنزل الذي ولدت فيه، فمر بائع خردوات وسط الشارع لشراء مشغولات أو قطع قديمة، تقدم منه طفل مقدما له شكيمة لجام حصان عريقة صنعها حداد شهير بتبردڤة لبيعها للتاجر الذي منحه 20 دينارا، استفزني ذلك المشهد فانتزعت الشكيمة من الطفل و اشتريتها منه مقابل 50 دينارا، و أمرت التاجر بالانصراف لحاله، هذه اللحظة بالذات هي التي استفزتني فقررت يومها أن أحوّل المنزل الذي رأيت فيه النور، إلى متحف ينير بضوئه على كل الأدوات التقليدية المهددة بالانقراض".

معْتُوه القُرَى

يحتوي المتحف على كل ما يمكن أن تتخيله عن العالم الريفي المندثر، عن الأدوات التقليدية التي قل استعمال بعضها، فيما اختفت أخرى تماما من المشاهد اليومية.

وكمن يعود بك إلى طفولته الزاهرة يرسم المتحدث عالما سحريا لكنه واقعي تماما فيستطرد قائلا:" كانت هذه القرى فيما مضى تنتج معيشتها من صناعة يدها، تصنع الأدوات الحديدية المتنوعة لدى الحدادين وأشهرهم عيادي، كما تصنع المذارى والمكانس من الخشب، وتنسج ما تحتاجه من زرابي في السدّايات، وتعجن أوانيها من الصلصل المنتشر بالجهة، وتأكل غلالها من بساتينها، وكان معيبا أن يشتري مقيم في قرية ما يأكله من قرية أخرى حتى لو كانت جارة. إن هذه البلدات كانت تتولى كل متطلباتها الفلاحية، سواء من حيث الإنتاج وصناعة أدوات الإنتاج".

إن كل ما يراه الزائر مرصوفا فوق الرفوف أو معلّقا في الجدران، هو ثمرة سبع سنوات من الجمع والاقتناء، وقد استغرب كثيرون من الأهالي انغماس هذا الدركي المتقاعد في البحث عن التحف القديمة، وغير المستعملة، كما لو أنها لُقىً نفيسة، حتى أن بعضهم ظن أنه معتوه تعوزه رقية شرعية للشفاء من لوثة التفتيش عن الخردوات في البيوت المحطمة، وفي هذا الصدد يشير ضاحكا: " التقيت ذات مرة بصديق في خنشلة، ولاحظت أنه كان يستفسر في إلحاح غريب عن صحتي. وعندما راجعته في ذلك قالي لي بأن الناس يقولون إنني جننت وأمضي وقتي بعد 28 سنة خدمة في الدرك، في جمع الخردوات من المزابل والأسواق وأبذر أموالي في سبيلها".

 

خنشلة 3

وعيٌّ جَماعِي

على هذا النّحو، داوم حسين على اقتناء الأشياء النفيسة والقديمة، منها رحى حجرية ضرب فوقها صليب، عائدة للفترة المسيحية، عثر عليها بائعها في ششار وعرضها في سوق بسكرة، وفي هذا الصدد يوضح" اشتريتها منه بمبلغ 3.5 مليون سنتيم، وقدمتها هدية للمتحف، مع أني لم أكن مستعدا لبيعها مقابل 100 مليون سنتيم"

وفي جولة بمتحفه الذي يشبه، من حيث الوظيفة، مراكز التفسير الثقافية، من ذلك النّمط الذي أنشأته السلطات الجزائرية بالأغواط وتلمسان، يراكم الرجل قلال وجرّات وأوان ومفاتيح وأقفال وزرابي ومنادف لصيد الحيوانات ومحاريث ومناسج وصناديق، مثل صندوق عروس يفوق عمره القرن، بالإضافة إلى قلة ورثها شاب عن والده تفوق المائة عام، وزربية أهداها له شخص يدعى حمة حيون ورثها عن عمه المقيم في قرية العامرة، وهي لعجائز شرعن في نسجها ليلة الفاتح نوفمبر 1954.

 

خنشلة 7

في غضون سبع سنوات صار المتحف بنكا يضع مواطنون ودائعهم التراثية و التقليدية، كما لو أنه نقل إليهم شرارته التي صارت بؤرة ضوء تستقطب السياح المحليين والأجانب، ونقطة يتجمع بها العابرون، لينهلوا من معين التراث أو ليعودوا بذاكرتهم إلى زمن مضى، كما لو أنّه توثيق حي ومستمر لأشياء لم تعد هنا، أو بالأحرى لم تعد دارجة في حياة الريف الذي عصفت به رياح التمدّن، لكن الدركي المتقاعد الذي يتوق لحماية مكتسبات الأسلاف من النسيان، يحلم في موضع آخر، بإنشاء مبيت سياحي تقليدي ليساهم على الأقل في الترويج لمنطقة لا تزال تحتفظ بكثير من الأسرار التاريخية والطبيعية والأثرية.