في نهايات شهر آب/أوت من كل سنة، تتحوّل بلدية تكوت الواقعة على بعد 95 كلم جنوب ولاية باتنة، شرقي الجزائر، إلى محجٍ بشريٍّ كبير يجمع بين الدين والتجارة، لإحياء تظاهرة " هامغرا نْتمنزوث"، أو سوق عيد الخريف، لا بوصفها موعدًا للترابح التجاري فحسب، بل لكونها ظاهرة تراثية اجتماعية متعددة الخدمات.
بينما يتوافد التجّار من كل فج عميق يلتئم الأعيان من أهل الحل والعقد عبر مجلس العرف " تاجماعت" لحل المسائل الخلافية بين الأعراش والنزاعات الفردية بين الأشخاص والأزواج
ففيما يتوافد التجّار من كل فج عميق، من جنوب البلاد وشمالها، ومن شرقها وغربها، يلتئم الأعيان من أهل الحل والعقد عبر مجلس العرف " تاجماعت" لحل المسائل الخلافية بين الأعراش والنزاعات الفردية بين الأشخاص والأزواج، كما لو أنه ميعادٌ روحيُّ لتخلية المجتمع من عوالق الماضي، وتحليته بعقد اجتماعي جديد، والغرض أن تستمر دورته الحياتية دونما عصي في دواليب حركيته صوب المستقبل.
عرس وطني
في هذا العام، ولأسباب مرتبطة بالانتخابات الرئاسية، اضطرت جمعية إذلس نتامزغا وبلدية تكوت، إلى عقد سوق الخريف بين أيام 14 و18 سبتمبر/ أيلول، 2024، عوضًا عن أواخر شهر أوت/ أغسطس، لكن جوهرها الفريد بقي كما هو، ولو بحفظ النزر القليل من بريقه الأزلي.
هكذا تقاطر التجار كما العادة من ولايات باتنة وبسكرة وقالمة وبجاية والمدية وتيزي وزو وبرج بوعريريج والبويرة وسيدي بلعباس وأم البواقي وبريكة والمسيلة و تقرت، لعرض منتجاتهم المختلفة، وسط المدينة، كما تهافت فلاحو المناطق المجاورة لبيع غلال العام من عسل وتين مجفف ومكسرات وتوابل، إلى جانب ما جادت به بساتينهم المنتشرة على ضفاف " إغزر أملاّل"، الوادي الأبيض، من تين ورمان وإجاص وعنب وتمور.
وبمّا أن سوق الخريف عرس يدوم ثلاثة أيام كما يقتضي العرف، فقد استُهل الإعلان عنه بمهرجان كرنفالي ثري، شاركت فيه فرق فولكورية تقليدية أبهرت الجماهير المترّاصة بعروض الرحابة والبارود الشاوية لفرقة تازيري من مروانة بباتنة، ورقصات لعلاّوي والنهاري المقدمتين من بالي بلعباس، وعرض تارڤي من فرقة تيكوبا الأدرارية، بلمسة واضحة أكدت تراص حبات العقد الوطني الفني، فوحدت المتفرجين حول فكرة الوطن الجامع المتعدد، وجعلت أطفال تكوت يتماهون وهم يرتدون أقمصة تحمل صور كتاب وأدباء وفناني منطقتهم، مع تلك الرقصات التعبيرية الموزونة على عزف مقطوعات الفرقة النحاسية.
ديّات وزيجات
يقول بلقاسم دوادي، فلاّح من المنطقة لـ "الترا جزائر": " عمري 70 سنة، ومنذ كنت طفلًا وأنا أشارك في سوق الخريف لأنه موعد أبيع فيه منتجات فلاحية أجلبها مباشرة من بستاننا، مثل دشيشة المرمز ودشيشة الفريك والكروية والقصبر وحبّة حلاوة، ومع أن الموعد فرصة لربح بعض المال فإن ذلك ليس هدفًا في حد ذاته، فللسوق أبعادٌ روحية أخرى تتجلى فيما يقوم به الأعيان من جلسات صلح بين الأعراش المتخاصمة، وفض النزاعات المالية ودفع الديات المتعلقة بجرائم الدم، والقصاص في قضايا الضرب والجرح، وتجديد عقود البيع والتأجير".
أما المجاهد المعروف أحمد شريف، 83 سنة، فيضيف لـ"الترا جزائر" بروح مرحة: " في السابق كان التجار القادمون من أعراش التوابة و الغواسير و بني فرح و السراحنة و الشرفة، ووادي عبدي، من من مناطق خنشلة و عين البيضاء و الزاب و بوسعادة، يأتون في قوافل على ظهور الخيول لعرض منتجاتهم التقليدية مثل الدْهان و الصوف و العسل و القمح و الفريك سواءً عبر المقايضة أو البيع، أما اليوم فتطوّر الحال ببيع مختلف المواد اللازمة للحياة الراهنة، لكن السوقت ليس فقط موعدا لتصفية الديون بين الناس في هذا الموعد، أو عقد صفقات حول بيع الأراضي أو تأجيرها، ففي العادة تبدأ مراسيم عقود الزواج هنا، حتى صار يقال بلهجتنا المحلية " كي يتسالكوا الناسْ يبداو لعراسْ".
أما السيد إبراهيم زرايب نائب رئيس المجلس الشعبي البلدي والمهتم بالتراث فيؤكد بناء على بحوث الراحل مسعود نجاحي بأن هذه السوق يعود أصلها القديم لعصور الأسواق النوميدية، حيث كان يسمى لام أقليذ، بمعنى سوق الملك، فثمة شاهدة طوبونيمية لاتزال تسمى أنّار أوقليذ أي طريق الملك، ما يدعم ترابط هذه المقاربة.
لكن الشكل الحالي للتظاهرة يرجع بها لتأثيرات مباشرة للعلامة الصوفي عبد السلام بن مشيش، الذي أسس مسجدا يحمل اسمه بدشرة تكوت القديمة، فهذا هو الوطن الأول لهذه السوق في الأزمان التي سبقت المرحلة الاستعمارية، قبل أن تهجره السلطات الفرنسية خلال الثورة إلى بلدة شناورة القريبة، ثم ليعاد تنصيبه بعد الاستقلال في مكانه الرائج في حي البرج في تكوت الجديدة.
مسجد السلام
اللافت بخصوص السوق كما يقول زرايب، أنها: "كانت تعقد في آخر جمعة من سلسلة الجمعات التي تلتئم حولها الزوايا الرحمانية الناشطة بالمنطقة المسماة حوز آريس الكبير، ما يؤكد ارتباطه بالبعد الروحي المتعلق بجلسات العلماء و الفقهاء لأنهاء الفتن الناشبة بين الأعراش المتخاصمة حول الحدود، و تنظيم طرق سقي البساتين الفلاحية من مياه حوض الماجل، الذي يعود للفترة الرومانية، و يساهم نبع يلمامن في إنماء مصادر عيش المتساكنين، ليقتضي الحال تنظيما دينيا للمسألة وفقا لمبدأ العدل و القسطاس توطينا للسلم الأهلي، ذلك أن حياة بلا أمن من الخوف تعني معيشة بلا أمن من جوع".
في دشرة تكوت القديمة قلاع كثيرة في الأعلى، وبساتين واطئة تشعرك بالهدوء والسكينة، وأنت تنزل إليها عبر سلالم حجرية عتيقة، تقودك عبر زقاق الظلمة، فلا تسمع غير خرير الماء المتدفق عبر قنوات تقليدية تسقي بساتين ذات أشجار كثيفة من الرمان والتين والزيتون، بينها زيتونة عريقة تسمى ثزمورت ثاملالت – الزيتونة البيضاء-التي يبلغ عمرها 1300 سنة، غرست إلى جوارها زيتونة فلسطينية جلبت من جبل النار بنابلس، كشكل من أشكال التضامن و مقاومة الموت بالثبات في الأرض، غير أن ما يلفت النظر، هو هذا المسجد غضاري اللون المنتصب بمنارته العريقة وسط الضيعات العامرة بالضوء و الظل والغلال، المسمى مسجد عبد السلام بن مشيش.
يقول الأستاذ الباحث بلقاسم عبد السلام، أحد أحفاد صاحب المسجد في حديث إلى "الترا جزائر" وهو يفتح لنا الأبواب لزيارته قائلًا: " حسب الكاتب الفرنسي كلود موريس روبار صحب كتاب عبر أودية الأوراس، والذي طاف بالمنطقة في ثلاثينيات القرن الماضي، فإنّ جدنا المرابط والولي الصالح عبد السلام بن مشيش، فرّ من بطش الكاثوليك الإسبان بالمغرب، ليستقر بتكوت القديمة العام 1502، فحظي بالتقدير والتبجيل لورعه وعلمه ودوره في الإصلاح بين القبائل و الناس، ثم عرفانًا بدوره أقام له الأهالي، بعد وفاته العام 1535 مسجدًا، تم تشييده ما بين أعوام 1535 تاريخ وفاة الولي الصالح و 1570 ميلادية، لا يزال يحوي ضريحه في قاعة تقع إلى يمين المصلى الذي يتوسطه محراب مزركش، و تعلو مكان الصلاة مدرسة قرآنية للبنين والبنات، دأبت الزاوية المشيشية الرحمانية على النشاط الديني و التعليمي بها".
لوحة الماء
ولأن الماء هو العنصر الأول للحياة الذي تدور بسببه حروب، فقد كان لسوق الخريف المنظم في آخر جمعة من سلسلة جمعات الزاوية الرحمانية دور في قطع رأس الشر منذ الوهلة الأولى، إذ يقول الباحث بلقاسم عبد السلام في حديث إلى "الترا جزائر"، مستظهرًا لوحة كتاب صغيرة الحجم مفسرًا: " تم تنظيم توزيع الماء بعبقرية فطرية، فعلى هذه اللوحة يتم نسخ أسماء العائلات التي ستنال حصتها من ري البساتين، وهي ذات نمطين، نمط لتقسيم الماء بالتساوي بين فرق عرش بني بوسليمان الأربع خلال فصل الشتاء، فيما ينحو التوزيع خلال فصل الصيف إلى طابع عائلي، أي بحسب ألقاب العائلات المالكة للبساتين و الأرض الفلاحية.
يتم ضبط التناوب من طرف مجلس الأعيان والشيوخ خلال سوق الخريف وتودع اللوحة التي تسري مسرى الرزنامة في مسجد عبد السلام بن مشيش إلى غاية التجديد المرتبط بسوق الخريف القادم".
على هذا النحو يبدو موسم سوق عيد الخريف على شكل نمط مكبر عن سوق عكاظ ثم نسخة مصغرة عن موسم الحج الأكبر، ذلك ما تلمسه مثلًا في قصيدة كتبها، عبد المجيد حبة العام 1948، لم تخل من تأثر بغزو عصابات الهاغانا الصهيونية للقدس مما جاء فيها:
سوق حكت ما مضى من سالف الحقب *** فبينها وعكاظ أقرب النسب
كل مباع بها يسمى مبيعًا فما *** ترى كساد لغير العلم والأدب
أليس قحطان من مازيغ كان أخا *** نماهما حضن أم برة وأب
وإنما المجد حاز معظمه عرب *** وبربر فدما دون ما كذب
ت لله إن بلاد القدس قدسها *** من اليهود وباؤوا منه بالغضب
أما فلسطين لا كان اليهود فلن *** تنفك محمية بنا من النوب
منصة ثورية
لا تخلو ربوع تكوت، أرض لصوص الشرف المعروفين، أو مجموعة الستة عشر وامرأة، الذين عارضوا الاستعمار، قبل اندلاع ثورة نوفمبر من مآثر القضية الاستقلالية، فقد شهد حوض الماجل، الواقع قرب مسجد عبد السلام، العام 1961 حادثة بطولية وقفت خلفها امرأة تدعى الضاوية عبد السلام، والطفل قرباعي، اللذان أنقذا سكانًا موالين لثورة التحرير من الموت تجمدوا في ميّاه الحوض خلال شهر كانون الأول/ديسمبر، بأن سرق الطفل مفتاحه وفتحت به الضاوية الصنبور محررة المياه المتراكمة باتجاه البساتين المجاورة ومنقذة الأهالي من مجزرة بالماء الجامد.
وسوق الخريف الذي تجاوز التجارة إلى الأبعاد ما فوق البيولوجية البحتة، إلى ما يمكن اعتباره سوقًا للحياة يهتم بما يدور في مهرجانها الكبير من أحداث اجتماعية ودينية و تعاملية و سياسية، استحق حسب ما يكشفه الدكتور عبد الفريد عبد السلام، نقلًا عن الباحثة الأنثروبولجية الشهيرة جيرمان تيون، مسمى" آخر سلسلة الحج الكبرى" لارتباطه بأضرحة أولياء الله الصالحين، الذين شكل ظهورهم خلال القرن السادس عشر بداية استقرار اجتماعي اختفت بموجبه الصراعات القبلية والاثنية بالمنطقة، كمّا لو أنّ الدين أسس لمصالحة داخلية كبرى ومهد لمجتمع يرعى مصالحه التجارية والتبادلية عبر أسواق الجمعات السائدة في الأوراس على غرار سوق العباد بالمغرب وأسواق قرى منطقة القبائل الكبرى والصغرى.
بيد أن المتحدث يشير لأمر هام هو كما يقول: " سوق الخريف بتكوت ذو علاقة وطيدة بالحركة الوطنية والثورة الجزائرية، حيث كان منصة دعائية ألقى فيها مصطفى بن بولعيد خطابًا قبل اندلاع الثورة بأشهر قليلة، كما نشط به كل من المناضل العتيد شبّاح المكي، و العربي دماغ العتروس و المناضل لخضر بن طوبال".
بركة الدراويش
رغم انقضاء ما يربو عن خمسة قرون لا يزال السوق قائمًا، ومستمرًا، يحظى بقدوم التجار من كل ربوع البلاد للاسترزاق، وتحقيق المنافع التي تخدم مصالح المواطنين الذين يقتنون كل ما تجود به الأرض من ثمار خلال الانتقال الفصلي من مرحلة الحر إلى فترة القر، وكذا الألبسة والأفرشة والأدوات المعيشية والمدرسية، بأسعار تنافسية تساعدهم على استهلال دورة الدخول الاجتماعي في ظروف ملائمة، وفي هذا الصدد يقول التاجر عزيز شلالي من البويرة لـ "اترا جزائر": " لم انقطع عن هذا السوق منذ خمس سنوات، رفقة تجار من المدية و المسيلة، لأنه تراث في الأصل، وطبعًا نشعر بالراحة و الأمان و نحقق مكتوب الله من الأرباح، وطبعا لن أتوقف عن المجيء في كل عام".
أما التاجر شكيب لحلح الذي يعرض أواني منزلية مقابل 100 دج لكل قطعة فيؤكد في حديث إلى "الترا جزائر" أنه "منذ سبع سنوات و أنا أداوم على الحضور، لا بل أحقق في ثلاثة أيام أرباحًا لا تقل عن 40 مليون سنتيم".
شهد حوض الماجل الواقع قرب مسجد عبد السلام، العام 1961 حادثة بطولية وقفت خلفها امرأة تدعى الضاوية عبد السلام والطفل قرباعي
وفيما يوعز العقل الأسطوري ذلك الرخاء وتلك السكينة الخرافيتين إلى بركة الدراويش المصامدة المنسوبين لزاوية سيدي المصمودي الحامية للأسواق، لا يطمح منظمو سوق الخريف سوى للارتقاء بها إلى مصف المهرجانات الكبرى لتجاوز الأضرار الحالة به بعد فترة كورونا، و تراجع عارضي المنتجات التقليدية أمام باعة البضائع الحديثة، وللحفاظ على ماهيته التقليدية والثقافية والروحية، حيث يختم يعقوب بزالة أحد منظمي التظاهرة وعضو المجلس الشعبي الولائي قائلًا: " الهدف الأساسي ترسيم سوق لخريف لترسيمه كتظاهرة ثقافية وطنية، ولم لا السمو به إلى تصنيف ضمن لوائح التراث اللامادي".