تصيبني بعض التّطبيقات التّي يقترحها فيسبوك بالقرف والرّغبة في تجنّبه مؤقّتًا، إلى أن يخبوَ التّفاعل مع التّطبيق المعنيِّ؛ لكنّ إيماني بطبيعة مواقع التّواصل الاجتماعيّ؛ وتفهّمي لها في سياقها، يجعلني أتعايش مع الأمر وأحاول الاستفادة ممّا يثيره من تفاعلات في قراءة اللّحظة الإنسانيّة والاجتماعيّة والوطنيّة والعالميّة القائمة، حيث بات تأمّل التفاعل الافتراضيّ واحدةً من آليات الفهم والرّصد والالتقاط.
من هذه التّطبيقات الفيسبوكيّة التّي أصابتني بالقرف من جهة، وأحالتني على جملة من التّأملات من جهة ثانية، تطبيق "ماذا تعرف عنّي؟"
ثمّ إنّه من التّعالي النّخبويّ الأجوف أن يحتكم الواحد إلى ما يعجبه وما لا يعجبه فقط، في تحديد ما هو جدير بالمتابعة والانتباه والاهتمام وليس جديرًا. إذ أنّ سيادة هذا المنطق هي امتداد لعقليّة ما قبل الوسائط الجديدة، حيث كان المثقّف يدور حول أناه متّخذًا منها منطلقًا للحكم على الأذواق والأفكار والاتّجاهات والخيارات، فيزكّي ما يتوافق معها ويقصف/ يُسَفِّهُ ما لا يتوافق، من غير أن يدري أنّه بذلك يمثّل نسخةً أخرى من شيخ القبيلة اجتماعيًّا والزّعيم الأوحد سياسيًّا، رغم أنّه في خطابه الفكريّ والأدبيّ يظهر رافضًا لمنطق المشيخة والزّعامة!
اقرأ/ي أيضًا: حوار المثقف والحاكم
لقد فضحت وسائط التّواصل الاجتماعيّ كثيرًا من عقَد وأمراض وتناقضات النّخب الثّقافيّة الكلاسيكيّة. وهي لم تكتفِ بتجريدها من سلطتها المعنويّة والرّمزيّة فقط، بل وضعتها أيضًا في مهبّ السّخرية والتّنكيت، من طرف شارع لم يعد يجد في مقولاتها ما يحيله على فنّ العيش أو العيش على الأقلّ.
ففي الوقت الذّي يرتدي فيه تلميذ وطالب اليوم هندامًا مختلفًا مواكبًا به الموضة السّائدة، يتشبّث معلّم. أستاذ. مثقّف اليوم (الظاهرة غالبة لكنّها ليست معمّمة) ببذلة واحدة على مدار الموسم! وعادةً ما تكون ذات لون كئيب وداكن وحزين! ويسافر الأوّل إلى بقع مختلفة، ويتعلّم أكثر من لغة، يظلّ الثّاني قابعًا في بقعته! ولا يكتفي فقط باللّغة الوحيدة التّي يعرفها، فرنسية أو عربيّة، بل يتهجّم على مستعملي غيرها! علمًا أن الأوّل لا يملك مدخولًا معيّنًا بينما يتمتّع الثّاني بمدخول مضمون شهريًّا مع جملة من المنح والعلاوات. ادخل أيّ مكتب بريد؛ حيث دفع الرّواتب والحوّالات الماليّة، وسوف تلاحظ أنّ نسبة الشّباب الذّين جاؤوا ليقبضوا مالًا ضئيلة جدًّا.
وقد أدّى هذا الواقع إلى هوّة نفسيّة وفكريّة بين الجيلين جعلت الجيل الجديد يتهكّم على الجيل السّابق ويسخر منه وينتج حوله نكتًا وتعابيرَ ساخرةً مختلفة! في مقابل تتفيه وتسفيه يوميّين يقابل بهما الجيل القديم منطق ونظرة وذوق وتوجّه وتعاطي الجيل الحالي. ولعلّ هذا ما يشكّل خلفيّة حقيقيّة لتشبّث جيل الثّورة وما بعدها بمشعل الحكم والتّسيير، بحيث يرون أنّ تسليمه لمن أتوا بعدهم يشكّل تهديدًا لسلامة المشعل!
من هذه التّطبيقات الفيسبوكيّة التّي أصابتني بالقرف من جهة، وأحالتني على جملة من التّأملات من جهة ثانية، تطبيق "ماذا تعرف عنّي؟" الذّي استهوى قطاعًا واسعًا من الفسابكة الجزائريّين، فراحوا يستخدمونه بشغف واستمتاع ظاهرين.
هل نحن بصدد مواطن جزائريّ بات يرغب في أن يعرف صورته في أعين شركائه في الفضاء والعطاء؛ بعد زمنٍ كان شعاره فيه "ما يهمنيش كيفاش تشوفني"؟ وهو المقام الضّروريّ لدخول أيِّ مجتمع إلى مقام التّعايش الذّي يحصّنه من العنصريّات والجهويّات والانغلاقات على الذّات، بما يجعله جزرًا متفرّقة ومتناحرة؟
لقد مرّت علينا فترة من الزّمن كان الواحد منّا يصحو فيها صباحًا، فلا يكون له همّ إلّا أن يسبّ شريكًا له في المواطنة! وينفي عنه الوطنيّة والجدارة بالانتماء إلى هذا الوطن. هل يعقل هذا بعد ستّين عامًا من ثورة تحريريّة قامت على اللّحمة الوطنيّة؟
واستفحلت نبرة التّخوين والتّخوين المضادّ، بين منطقة وأخرى. وبين خيار سياسيّ وآخر. وبين الأطراف الشّعبيّة والأطراف النّظاميّة، بإشراف واضح من نخب ثقافيّة وإعلاميّة وسياسيّة كان يفترض أن تكون مشرفةً على زرع خطاب الوحدة والتّكامل والحوار.
لقد ثبت لنا فعلًا أنّنا لا نعرف بعضنا. وإذا كان هناك سؤال جدير بأن نجعله سؤال المرحلة؛ على مستوى الأفراد والجماعات، فهو "واش تعرف عليّ؟". ومهما تكن الإجابة، فسوف تكون مدخلًا لتصحيح النّظرة وتقريب الفكرة، بما يضع الأطراف جميعها أمام خيار التّعايش والتّعاون وقبول الاختلاف.
أين المنظومات المعنيّة بالاستثمار الإيجابيّ في مثل هذه التّهَيّؤات الشّعبيّة، حتّى ندخل إلى المستقبل بصفتنا أمّة مختلفة المشارب الثّقافيّة؟
فأين المنظومات المعنيّة بالاستثمار الإيجابيّ في مثل هذه التّهَيّؤات الشّعبيّة، حتّى ندخل إلى المستقبل بصفتنا أمّة مختلفة المشارب الثّقافيّة لكنّها موحّدة العواطف الوطنيّة؟ ما في جعبة النّخب الثّقافيّة والجامعيّة والإعلاميّة والسّياسيّة لتكريس هذا الخيار، وجعل المواطن يعتقد فعلًا هذه الفناعة "اهربْ من الرّمل أو الغبار؛ فستجده في حلقك. كذلك هو أخوك في الوطن".
اقرأ/ي أيضًا: