23-مايو-2019

لوحة لإيمي ستيوارت

هل تختلف لهفة العريس الذي تعود على أن يلتقي عروسَه قبل ليلة الدخلة، عن لهفة العريس الذي لم يتعود على ذلك؟ راودني هذا السؤالُ وأنا أخطو نحو عروسي ليلة 26 جويلية من عام 2008. ثم صبّتْ نخبةٌ من الأسئلة نفسَها على رأسي دفعةً واحدةً، فلم أدرِ هل أمنحه للعروس أم للأسئلة.

حاولتُ أن أتفادى صراعَ اللحظة، بالنظر إلى شريكتي الجديدة في الحياة، فتهيأتْ لي في شكل سؤالٍ أنيقٍ لكنه حارق: هل سبق لك أن أحببتَ إحداهن قبلي؟

اعتذرتِ اللغةُ عن وصف يدي وهي تمتد إلى الشاش لتزيلَه عن رأس العروس، فقد عقدتُ اتفاقًا مع لغتي، منذ إحراقي لمخطوطي الأول "أنثى الغيم"، في حديقة صوفيا بالجزائر العاصمة عام 2002، يقضي بأنني لن أغفرَ لها إذا لم تعتذرْ عن عجزها في الإحاطة باللحظات العميقة التي أعيش، فأكتفي بالصمت، تمامًا مثلما اتفقت مع زوجتي في ليلتنا الأولى، على أن ارتباطنا المقدس، لا يعني أن يُلغي أحدُنا ذاكرةَ الآخر. وحكيتُ لها عن "ب".

حكاية مرتبكة

لم أدرِ كيف أبدأ الحكاية؛ فاستعنتُ عليها بنسيان أنثاها القديمة، والتركيز على أنثاي الجديدة. ثم تداخلت الأنثيان في رأسي المفخخ بالأسئلة، فأحسستُ في لحظةٍ ما أنني أُدخِلُ يدي إلى جوفي، وأستخرج منه قلبي لأعيد تحيينَه.

كان ارتباكًا شبيهًا تمامًا بارتباكي حين تقدمتُ نحو "ب"، خلال شهر أفريل من عام 1993، في ساحة ثانوية الشهيد سعيد زروقي ببرج بوعريريج، لأخترقَ حجابَها، وأقولَ لها إنني أحبك.

من هذا الشجاع بنُ الشجاع، الذي يَجْرُؤُ على أن يقولَ ذلك لـ"ب"؟ لقد أعطت انطباعًا للجميع، منذ التحاقها بالثانوية، أنها لبؤة غيرُ قابلةٍ للاختراق.

نافستِ الجميعَ في المعدل والجمال والحماس والهيبة والابتسامة المحرجة للعصافير والسواقي والملائكة والخمائل والقصائد، التي يكتبها شعراء اخترقوا الزمن، فشاهدوا حواء وهي تقدم التفاحة لآدم.

كانت خارجةً من مكتبة الثانوية، تحمل كتاب "جددْ حياتَك" للشيخ محمد الغزالي، فانتهزتُ الفرصة (أكره هذه العبارة) وسحبتُ الكتاب من يدها. هل كانت نيتي أن أدس رسالة قلبي إليها في الكتاب، أم لألمسَ يدَها؟

سأعترف بأن روحي هذه، التي يحبها البعض ويكرهها البعض، لا تفضل غذاءً على الغذاء الذي تمنحها لها الثواني التي تلمس فيها يدي يدَ أنثى. كما سأعترف بطقسٍ صوفي مهبولٍ كنتُ أمارسُه، في الجزائر العاصمة، قبل زواجي، هو أنني أركب الحافلة أو القطار، بغض النظر عن الوجهة، وأظل واقفًا في رواق العربة، حتى وإن توفر لي مقعد، فقط ليُتاحَ لي أن ألمسَ يدًا متشبثةً بالعمود الحديدي.

أسئلة الملاك الرجيم

هل كنتُ سأتوجه إلى كتابة القصيدة والقصة الومضة لولا تلك اللمسات؟ هل ورثتُ هذا الطقسَ عن تلك اللحظة الكهربائية، التي لمستْ فيها يدي يدَ "ب"؟ وهي تتناول كتاب الشيخ الغزالي؟ هل بادرتْ "ب" إلى سحب يدها كما كان متوقعًا؟ هل راعى كلانا ما كان الشيخ سيقوله عنا، لو أتيح له أن يرى يدينا؟

هل ساعفني النوم تلك الليلة في مرقد الثانوية، إذ كنت تلميذًا داخليًا؟ لقد أخفيت رأسي تحت الغطاء، ومنحت أذني اليسرى للمذياع، حتى ارتفع أذان الفجر. هل سمع من كان يُصلون خلفي صوتي؟ لقد هَدّهُ السهرُ والخوفُ من أن ترد "ب" على رسالتي بالرفض. هل شربتُ الحليبَ في مطعم الثانوية؟ لقد توجهتُ إلى الساحة على طول، حيث ستطلع "ب".

هل تذكرتُ كلمةً واحدةً من القاموس، وهي تخطو نحوي؟ لقد مسحتْ خطاها ذاكرتي اللغويةَ، كما تمسح موجةٌ صبيةٌ ما يخطه صبي على رمل الشاطئ، حتى أني لم أقلْ لها كلمةً واحدةً، وأنا أستلم منها الرسالة البتول. هل انضممتُ إلى الصف بعد أن دق جرس الدخول؟ لقد هرولتُ إلى المرحاض. هل قرأت الرسالة مرةً واحدةً؟ لقد قرأتُها وقبلتُها بعدد الكلمات التي فقدتُها.

الرسالة العضاضة

كان يُمكن للمراقب العام للثانوية، السيد زطشي، أن يتسامحَ مع تلميذٍ صَفَعَهُ، لكنه لم يكن يتسامح معه، حين يتأخر عن الصف. رآني خارجًا من جهة المراحيض، فأطلق علي عيطةً هشمتْ زجاجي قبل أن تصل إلي.

تيبسْتُ في مكاني، مثل لقمةٍ في فم بَلَغَ صاحبَه خبرُ رحيلِ عزيزٍ عليه. أمسكني من أذني، التي لم تعدْ تسمع شيئًا، وقادني إلى مكتبه. هل ثمة أذن تبقى على قيد السماع، بعد أن تسمع عيطة المراقب الزطشي؟

حين عدتُ إلى برج بوعريريج، من الجزائر العاصمة، نهاية عام 2017، وسمعتُ أنه انتقل إلى رحمة ربه وغفرانه، وجدتُني عفويًا أتلمسُ أذني وشعري وبطني وخدي وعنقي. وهي البقع التي نالت منها يدُه الحديد.

في استراحة الساعة العاشرة، سألتني "ب":

ـ ما بها أذنك؟

ـ عضتها رسالتُك. (وحكيت لها ما حدث)

ـ إذا لم تصبرْ على قرصةٍ من المراقب العام للثانوية، فكيف ستصبر على تبليغ تعاليم المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين، في مسعى بعث الخلافة الإسلامية؟ إنه شرطي الوحيد لأن نكونَ معًا.

لحظة مكثفة أولى

نزلتُ في مطار دبي، أواخر شهر أفريل من عام 2015. ورحت أبحث عن اسمي في اللوحات التي تحملها فتيات آسويات غارقات في ابتساماتهن، فإذا بي أقرأ في إحداها اسم "ب"، التي لم ألتقها منذ دخلت الجزائر العاصمة يوم 30 جوان من عام 2002.

 لقد أحييتُ ذكراها في روايتي "ندبة الهلالي" عام 2012. كان لا بد أن أكتبَها حتى أتحررَ من وحشها المتربص بروحي دومًا، خاصةً أنني يئستُ من إيجادها.

راهنتُ على ظهوري في الإذاعة والتلفزيون، ما بين عامي 2003 و2012، على أن يدلها عليّ. وكنت أحرص على أن يظهر إيميل البرنامج أسفل الشاشة، لكن بلا جدوى.

لم أصدقْ عيني وهما تقعان على اسمها في لوحة الاستقبال، فسألت حاملتَها الفلبينية، التي أكدت لي أنها جزائرية. وأنها مدعوة لإلقاء محاضرة، في ملتقًى يُعنى بالسلوك الغذائي.

لم تأتِ.

لحظة مكثفة ثانية

كنتُ أصرخ في مسيرة الجمعة الثالثة من الحراك الشعبي في برج بوعريريج. والحق أقول إنني تعمدت أن أكونَ قريبًا من مربع النساء، لأغذيَ فخرًا عميقًا بحضورهن، فإذا بعيني تلتقطان مشهدًا لامرأةٍ كانت تغذي حماسَ المتظاهرات، بشعاراتٍ غيرِ مستهلكة.

أليست هذه "ب"؟ ههههه يا لها من امرأةٍ لا تستقيل من التميّز! لكن "ب" التي أعرف متحجبة، بينما هذه سافرة! روحْ ليها وصقصيها يا رزيق. كانت لحظة لم تستوعبها اللغة العربية الفصحى، مثلما لم تستوعبني الشجاعة، فأذهب للتأكد من كون المرأة هي "ب" أم شبيهةً لها.

لحظة مكثفة ثالثة

العاشرة صباحًا في الثاني من رمضان 2019: 

سمعتُ طرقًا رحيمًا على الباب، دَلّ على أنه لأنثى. طلبتْ أم علياء مني أن أفتح، فقد كانت تُطعمُ صغيرتَنا "خيال". لم يتردد البابُ في الانفتاح. متى ننتبه إلى الصعوبة التي تنفتح بها الأبوابُ في الجزائر؟ 

إنها المرأة نفسُها التي رأيتها في المسيرة. لم أعدْ محتاجًا إلى التحقيق في هويتها، فقد قامت ابتسامتُها بذلك. قالت إنها مكلفة بجمع المعلومات عن طبيعة أطعمة السكان، وسألتني عن اسمي.

تهديد اللغة

إياكِ أن تعجزي أيتها اللغة عن رصد اللحظة. سأرميك مثل قشور البطاطا في القمامة، إذا لم تسعفيني لأقول لها إنني تخليت عن الحلم بعودة الخلافة الإسلامية، مثلما تخليتِ أنتِ عن حجابك.

نسيتُ أن أقول لها ذلك. ونسيتْ هي أن تسألَني عن طبيعة طعامي، إذ راح كل واحدٍ منا يحكي للآخر عن أولاده.

يتنحاو ڨاع

  ـ شكون هاذي؟

ـ وحدة بعثتها البلدية باش تعرف واش ياكلو السكان. حكيتلك عليها ليلة الدخلة.

ـ "ب"؟

ـ بالذات والصفات.

ـ يمالا الجمعة الجاية تزيدها في المسيرة للباءات نتاع بوتفليقة.

ـ حبي.. هاذي نحاها ربي. أما هذوك ينحيهم الشعب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرسالة: أتعبنا الموت

أحفر عميقًا لأدفن السماء

دلالات: