18-أبريل-2022
مسجد كتشاوة بالعاصمة (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

مسجد كتشاوة بالعاصمة (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

أسفل مدينة القصبة العريقة، ووسط صيحات البائعة المتجوّلين، وضجة الأطفال وهم يلعبون أمام الساحة الضيقة، وبصوت جهوري ونغمة أندلسية يُرفع آذان صلاة الظهر، ليسود حينها الصمت والسكينة في المكان، ويباشر المصلون والمارة إلى بهو مسجد كتشاوة العتيق لأداء الصلاة.

عامر رخيلة: ما لا يقل عن خمسة آلاف شهيد سقطوا دفاعًا عن جامع كتشاوة عندما أراد المستعمر الفرنسي تحويله إلى كنيسة

جامع كتشاوة تحفة عمرانية ذات طراز عثماني-موريسكي، من أشهر المساجد التاريخية التي عمرت مدينة القصبة، حيث يشكل اليوم معلمًا تاريخيًا وسياحيًا وروحيًا، مازال شاهدًا على محطات تاريخية عاشتها الجزائر خلال الفترة العثمانية، كما يقف هذ الهيكل رمزًا للمقاومة ضد الاستيطان، بعد مجزرة بشعها ارتكبها الاحتلال الفرنسي في حقّ المصلين، وعنوانًا لاسترجاع الهوية الدينية والاستقلال الوطني.

مساجد الفترة العثمانية 

عرفت الفترة العثمانية بناء وتشييد المساجد والمؤسّسات الدينية والمدراس القرآنية، ففي كل أزقة وشوارع مدينة القصبة يوجد بداخلها مسجد أو مصلى لأداء الصلوات والتعليم القرآن وتلقي الدروس وحل الخلافات، على غرار جامع الجديد أمام الواجهة البحرية، ومسجد علي بتشين أسفل القصبة مقابل ساحة الشهداء.

بوشرت أعمال بناء جامع كتشاوة من طرف الداي حسن سنة 1696 ليتم توسيعه وتهيئته ما بين سنتي 1794-1795، وترجع تسمية الجامع إلى كلمة "ساحة العنز" باللغة التركية، وأطلق الاسم على المسجد هذا الاسم نسبة إلى السوق القائم بجوار المكان الذي تحول إلى اسم ساحة الشهداء فيما بعد.

وتوسّط جامع كتشاوة مركز ومقر السلطات السياسية والإدارية والعسكرية والمالية إبان الفترة العثمانية، على غرار دار السلطان، دار المال أو الخزينة، دار العزيزة، دار الخداوج العمياء، دار مططفى باشا ودار الحمراء.ويقع جامع كتشاوة بجانب أسواق تجارية، نذكر منها سوق الصياغة، سوق الكبير، سوق الحدادين، سوق الخضرايين.

نوستالجيا ومنارة

في السياق ذاته، يشكل جامع كتشاوة بالنسبة إلى سكان القصبة معلمًا تاريخيًا، ونمطًا معماريًا، ومن الأمكنة النوستالجية في العاصمة القديمة، يقول الحاج بوعلام، وهو واحد من القاطنين بجوار المسجد، "إن الجامع يُشكل مسار حياة، فمنذ طفولتي وأنا أسكن بجوار المسجد". 

ويردف المتحدّث "تزامنت طفولتي ومراهقتي والجامع كان كنسية مسيحية، وعشت أيام استعادته وتحويله مجددًا إلى بيت من بيوت الله، كانت واحتفالية عظيمة في ذلك الوقت، وعمت الفرحة والبهجة كامل البلدة".

يستطرد الحاج بوعلام في حديث إلى "التر جزائر" ، إن الألسنة كانت تتداول وقتها قصصًا حول مجزرة وقعت داخل المسجد إبان الاستعمار  الفرنسيالغاشم،وكنا  أطفالًا لا نقترب ولا ندخل المكان، بسبب ما سمعنا عنه.

وأضاف لقد كان المسجد الذي تحول إلى كنسية عنوانًا للسطو الفرنسي على الممتلكات والرموز، وكان مشهده مبعث غضب وحزن بداخلنا.

هنا، يشير عمي بوعلام إلى أنّه بعد الاستقلال كان مسجد كتشاوة صرحًا يزوره كل مسلمي العالم، ويشد إليه العلماء والدعاة الرحال نظرًا  لإرثه التاريخي والرمزي لعودة الكنيسة إلى أصلها الإسلامي والمسجدي.

مجزرة كتشاوة

من جانبه، يذكر عامر رخيلة، الأستاذ والمؤرخ في تصريح إعلامي بمناسبة إعادة ترميم وفتح مسجد كتشاوة سنة 2018، أن الجيش الفرنسي وفي إطار التوسعة العمرانية والاستيطانية قرر تحويل المسجد إلى كاتدرائية لأداء صلوات القديس.

وأضاف أن القرار أثار غضب واستهجان السكان والطلبة، الذين هبوا إلى الدفاع عن المسجد، حيث اعتصموا بداخل الجامع وأغلقوا الأبواب.

ووفق المؤرخ رخيلة، فإنه ما لا يقلّ عن خمسة آلاف شهيد سقطوا دفاعًا عن حرمة وكرامة كتشاوة وقتها، وتعد المجزرة شاهدة على جرائم الاستعمار الفرنسي، الذي حول المسجد إلى كاتدرائية تحمل اسم "سانت فلبيب".

أول جمعة بعد الاستقلال

مباشرة بعد استقلال الجزائر سنة 1962، تم تحويل الكنسية إلى مسجد تقام فيه الصلوات اليومية، لحمل القرار إحدى رمزيات الاستقلال والسيادة، واسترجاع الهوية الدينية الإسلامية للبناء، حيث أقيمت فيه أول صلاة الجمعة في 5 من تشرين الثاني/نوفمبر 1962 بحضور رسمي ووفود غفيرة من مختلف الدول الإسلامية.

وكان أوّل خطيبها العالم البشير الإبراهيمي، أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومما ورد في الخطبة " يا أتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر والأنوار ... وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي".

وقال "لقد كنا نمر على   هذه الساحة مطرقين ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح، ويسيل العبرات كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا".

كتشاوة في رمضان

ويطبع نشاط المسجد خلال شهر رمضان خصوصية فريدة، حيث تتضاعف فيه الأنشطة والندوات والأعمال الخيرية، وتتزين جدران المسجد الخارجية بالألوان والاضواء ويرفع صوت قارئ القرآن قبيل آذان المغرب، وينشط رواد المسجد في تقديم الإفطار وتنظيف وتهيئة المسجد لاستقبال الزوار والمصليين من كافة أقطار الجزائر.

السلطات الجزائرية أغلقت المسجد عام 2007 بعد زلزال ضرب العاصمة وأحدث أضرار بالبناية

جدير بالذكر، أن السلطات الجزائرية أغلقت المسجد عام 2007 بعد زلزال ضرب العاصمة وأحدث أضرار بالبناية، وتولت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق في إطار التعاون الثقافي والعمراني والمحافظة على الثراث المادي على ترميم المسجد واستمرت الاشغال ثلاث سنوات، ليتم إعادة فتح المسجد كتفحة معمارية حضارية في شباط/فيفري سنة 2018 بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.