11-سبتمبر-2019

تُقام في بعض المناطق الجزائرية استعراضات شعبية احتفالات بعاشوراء (الصورة: موزاييك. أف.أم)

(1)

أستمتع، مرّاتٍ، بمرافقة البنات إلى حوانيت الحومة، للتبضّع، ومرّاتٍ أجعل متعتي في إرسالهنّ وحدهنّ، ومتابعتهنّ من الشّرفة. إذ يصغر حجمهنّ ويكبر ولعي بخطوهنّ، فلا أغادرها حتى يظهرن عائداتٍ، مثل عجائزَ أكلن رؤوسَ الأعوام والأزواج، فهنّ يُقصّرن الخطوَ، حتى يُطِلْنَ الحكايات.

(2)

 مرّاتٍ يجلبن غرضًا لم نوصيهنّ عليه، ومرّاتٍ ينسيْن غرضًا خرجن أصلًا من أجله، ومرّاتٍ ينسين أنفسهنّ، فلا يعدن إلا بعد أن أترك قلمي، وأخطّ الطريقَ بحثًا عنهنّ. تمامًا مثلما حدث لي اليوم.

ـــــــــــــــــ

شريط الذّاكرة

ـــــــــــــــــ

كنّا صغارًا في قرية أولاد جحيش، وكانت لنا أيّام تكون فيها جرعة الفرح أكبرَ منها في الأيّام الأخرى، منها يوم عاشوراء. وعلى الأصدقاء الشّيعة أن يتريّثوا، فلا يُسارعوا إلى الاعتقاد أننا كنّا نفرح بمقتل السّيّد الحسين، فقد قلت إنّنا كنّا صغارًا وقرويين لم يصلنا لا خبر الحسين، ولا خبر بني أميّة. إنّما كان فرحنا بسبب ظهور بوسعدية، في ذلك اليوم بالذّات من العام، ليجعل للقرى الأخرى أيّامًا أخرى يفرح بها صغارُها.

وبوسعدية هذا يا سادة يا مادة يا أحباب الله، درويش ترافقه فرقة، منها من يضرب على الطّبل، ومن يضرب على الدفّ، ومن يضرب على الزّرنة. يقصد أحواشَ القرية حوشًا.. حوشًا، ليبارك العرائسَ والولدانَ والحجّاجَ والمُشترى حديثًا من البغال والأفراس وكباش الإخصاب. وإن حدث أن وُجدت امرأة تأخّر عنها الحمل، بما يكفي لإثارة القلق، فهو مسموح لها بأن تحسن إخفاء وجهها بلحافها، وترقص في الحضرة حتى يُغمى عليها. فيما يُطلق بوسعدية صيحاتٍ عالياتٍ، يتخلّلها كلام مفهوم مثل: "يا ربّي يا عالي الأوتاد.. عمّر حجرها بالأولاد"، وكلام غير مفهومٍ يكون أخفتَ من الأوّل، فيضيعَ موجاتٍ.. موجاتٍ في الأنغام.

كنّا نُعفى من الرّعي، في ذلك اليوم، حتى لا تفوتنا بركة الزّائر السّنوي المقدّس. كما كان ظهوره مرتبطًا عندنا بحشو بطوننا بلحم الدّجاج البلديّ حدّ التّخمة. إذ كان ثابتًا أن تختار كلُّ امرأةٍ متزوّجةٍ أحسنَ ديوكها ودجاجاتها، وترمي بها بين يديه، فيجرّ عليه بخنجر يسمّى "البوسعادي". وكم كان يروق لي اختلاط رقصات الدّجاج المذبوح بأنغام الفرقة الذّابحة.

كنّا نلعب، يومًا، تحت شجرة الخرّوب، التي تجتمع تحتها عجائز القبيلة، ليطبخن العصيدة ويوزّعنها على النّاس، كي يسقط المطر في بدايات الخريف، فيحرثَ الخلقُ عُطْلانَهُم. وحدث أن ذكر أحدُهم بوسعدية بسوءٍ. ياه.. لقد نظر إليه أحد الصّبية نظرة حارقة، ثمّ انسحب إلى الخلف.

وبينما نحن نتهافت على قصعة العصيدة، إذا بصاحبنا الذي ذكر بوسعدية بسوء يُطلق صرخةً لم تسعها السّماء. بتلقّيه حجرًا سمينًا، من يد الصّبي الذي غاب عن الأنظار. وحين سئل عن سبب ذلك قال: "إنّني جئت إلى الحياة، بعد أن رقصت أمّي في حضرة بوسعدية، وأنا لا أسمح لمخلوقٍ في الدّنيا، بأن يسبّه أو يُسيء إليه".

ــــــــــــــــ

كهرباء اللّحظة

ــــــــــــــــ

(3)

خرجتُ ـ بعد أن استبطأتُهنّ ـ فصادفتُ الفتى "ر" المعروف بـ"هبّاط السّراويل"، لأنه يُهدّد الجميع بأن ينزع عنهم سراويلَهم، فأنكر أنّه رآهنّ، وانخرط معي في مسعى البحث، وهو يُهدّد من يُؤذيهنّ بنزع سرواله.

(4)

تخلّى عنّي، بمجرّد أن انتهت إلى أذنيه أنغامُ الزّرنة، وصيحاتُ شبابٍ استنتج أنّهم يرقصون عليها.

(5)

درت دورتين، فوقفت على مشهد قد أعجز عن كتابته: بوسعدية يُشعل الرّحبة بالأنغام، وشباب يُشعلون رقص بناتي بالتّصفيق.

(6)

انخرط "ر" هبّاط السّراويل في الحضرة عفويًا، وراح يستفزّ نجمة كي تراقصه، فاستجابت له. أصابتها الدّوخة، فتشبّثت به حتى هبطا معًا: هي وسروالُه.

(7)

اللهمّ إنّي صائح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليستا قصّتين قصيرتين.. إنّه الواقع يدخّن ويشرب

صديقي الذّي خانه الحبّ والشّعب