03-أغسطس-2021

لوحة للفنان فان غوخ برتدي كمامة (فيسبوك/الترا جزائر)

إذا ما تأملنا مراحل الوضع الصحّي في الجزائر منذ بداية أزمة كورونا، ووسط اهتمامٍ فكريٍّ عالمي بظاهرة الوباء وآثاره، سنلاحظ قطعًا غياب صوتٍ كان من الممكنِ أن يكون الأكثرَ تأثيرًا، ذلك الصَّوتُ الذي فضّل الخَرس غيرَ المبرّرِ، صوتُ المثقفين الجزائرين، إذ لم يكتفِ أغلبهم بذلك الهروب والانزواء الذي واكب سنتين من التغيير السياسي والحراك الشعبي، بل إنهم استمرّوا في تجاهل مآسي الشعب في مواجهة الموت والخوف وكأنها لا تعنيهم، فلا نجد نقاشات ولا حوارات، ولا تعاون أو لقاءات فكرية وعلمية مع المختصين والأطباء لفتح باب المعرفة والمعلومة أمام المواطن، ولا مشاركة تذكر في المشهد التوعوي في الشارع أو على مواقع التواصل الاجتماعي.

بوعلام رمضاني: ​الوضع الصحي العام المزري الذي يدفع  كبار المسؤولين إلى العلاج في الخارج، أوضح حقيقة تثبت أن "الأزمة الصحية" هو تعبير غير دقيق

صار لكل منا فقيد يبكيه، وبات هنالك الكثير من مصادر الرزق المعطلة، رحنا نخلق كمواطنين ولو بصعوبة، أصواتًا تعلو في كل مرّة ابتغاء لنشر بعض الوعي والمساهمة في انتشار المعلومة الصحيحة بين الناس، كل من منبره وعلى حسب قدراته الفكرية واجتهاده، لعلنا نوقف قطار هذا الموت الخبيث، ولربما يتسنى للمواطن من خلال هذه الأصوات الاحتياط والتعامل بشكل صحيح مع الوباء.

اقرأ/ي أيضًا: المستشفيات الجزائرية.. "العمومي" محجوز لكورونا و"الخاص" لمن استطاع

لِمَ يذهبُ إذن قطاعٌ واسعٌ من المثقفين الجزائريين إلى التنكّر لدورهم في نشر الوعي والإنحيازِ للمسحوقين وفضح ممارسات السلطة وتقديم البدائل؟ ولمَ يتخلى المثقفُ عن دوره في التعامل مع وباء شرسٍ استهدفَ حياة الناس وكشف عن عجز الحكومات في الحرص على حياة المواطنين؟

لمَ هذا الكتمُ الإراديُّ لصوت المثقف "ابن الشعب"، في الوقت الذي تخلت فيه السلطة عن شعبها وتركته في مواجهة مباشرة مع موجة وباء جديدة تأتي على الأرواح بشكل أسرع وأكبر، وسط بروباغاندا إعلامية خانقة وشائعات تأتي على إدراك الفرد، مع انتشار أزمة أوكسجين حادة كشفت عن عورة سلطة لا تأبه إلى الآن بصرخات أبناء الشعب اليائسة؟!

مواطن شجاع و"مثقّف ضوئي"

يعتبر الكاتب كمال زايدي في حديث لـ 'الترا جزائر" أننا لو استندنا إلى المفهوم العام، فإن ما نسميه بـ "المثقف" يشكّل جزءًا غير مفصول من النسيج الاجتماعي الموبوء في صحته وفكره وحرياته، وما يُكبل غيره من التكوينات يُعجزه هو أيضًا على اتخاذ أي مبادرة اجتماعية أو طرح حلول للخروج من الصدمة الوبائية التي نتعرض لها في هذه الفترة الصعبة جدًا، والمتداخلة مع مشاكل اقتصادية ومطلبية أخرى.

يوضح الكاتب هنا، أن الكثير من المُنتجين، كتابًا كانوا أو أساتذة جامعة أو سينمائيين أو غيرهم، قد تأثروا جدًا بالوضع الصحّي القائم، كما يمكن التدليل على أسماء أدبية معروفة فقدت أفرادًا من عائلتها، كالأم أو الأخت أو الأخ أو الأب أو غير ذلك،  بل إن بعضهم -حسب زايدي- عجز عن توفير عبوة أوكسجين لإنقاذ شخص من أهله، وهذا يعكس هشاشة الوضع الذي نمرّ به، وعدم قدرة المثقف الجزائري على فعل أي شيء اتجاه المقربين إليه.

من جهة أخرى، شدّد كمال زايدي على أنه من غير الممكن أن نعني بما سبق ذكره، ذلك " المثقف الضوئي" الذي صنع أسهمه المالية بفضل الريع السابق ودفاعه عن خيارات السلطة في العقود الماضية أو بفضل الميديا المالية، لأن هذا النوع حسبه، بعيد عن هموم شعبه حتى في أحلك الظروف، ويملك القدرة على النأي بنفسه من الوباء صحيا أو جغرافيا، وقد تكون أبشع صورة للمثقف الجزائري في الفترة الأخيرة، يقول الكاتب، كانت تلك المتعلقة بالنخبة المفصولة نهائيا عن آلام المصابين واحتياجاتهم، ففي الوقت الذي كانت فيه المشافي تصرخ من قلة الامكانيات وكثرة المصابين، كان بعضهم على الفايسبوك يتحدث عن نقد العقل العربي، ومعاوية و علي، وهذا ما يمكن اعتباره أبأس نموذج من النخب الجزائرية التي ابتلى بها البلد.

يؤكّد كمال زايدي إذن، أن المواطن الجزائري البسيط الذي كانت تصفه بعض الأصوات الجامعية والمثقفة  في الوسائط الاجتماعية "بالروجي والقهوي" وغيرها من النعوت البائسة، هو من واجه ويواجه الوباء في الشارع وداخل التشكيلات الجمعوية وفي مصالح الكوفيد، وهو من يشارك بما تيسر من أموال وذهب لشراء عبوات الأوكسجين، معيدًا صورة الجزائري الذي قدم أعز ما يملك للدولة الجزائرية التي خرجت منهكة بعد الاستعمار، وهي صورة ستظل حاضرة في ذهن البعض الذين يعيشون داخل أقبية معزولة عن مجتمعهم، يتحسسون اللغة لوصف هؤلاء الشرفاء بأوصاف مقززة.

فَشَلُ المُثقّفِ من فشلِ النِّظام

من جهته، صرح الكاتب الصحافي بوعلام رمضاني في حديث إلى "الترا جزائر"، أنه لا يمكن مناقشة دور المثقفين مبدئيًا ومنهجيًا في أي مجتمع في ظرف معين وعابر بحكم طبيعته (أزمة صحية ظاهريًا) من منظور مجزأ وغير شمولي.

ويضيف المتحدث أن هذا المنظور الشمولي يفرض علينا منهجيًا وضع الأزمة الصحية في إطار تأزم عام، تتفاعل من خلاله جدليًا كل الجوانب المرتبطة بما يسمى بالأزمة الصحية الظرفية المرتبطة بجائحة كورونا.

ويوضح بوعلام رمضاني هنا، أن المنظور الشمولي يفرض علينا منهجيًا الانطلاق من العام إلى الخاص، وهو الأمر الذي يؤدي بنا إلى الحديث قبل كل شيء عن أزمة حكم سياسي فشل في بناء منظومة صحية حقيقية منذ الاستقلال، بالشكل الذي لا يسمح بتقديم العلاج لمرضى المجتمع في ظروف مقبولة.

وحسب رمضاني، فإنّ الوضع الصحي العام المزري الذي يدفع  كبار المسؤولين إلى العلاج في الخارج، أوضح حقيقة تثبت أن "الأزمة الصحية" هو تعبير غير دقيق حتى وإن كان مقبولًا ظاهريًا، لأن الأزمة عالمية حسبه ، كما أكدت أن طبيعتها غير مسبوقة تاريخيا، إذ تتجاوز فعالية مواجهة الامراض والأوبئة التقليدية.

يؤكد بوعلام رمضاني هنا، أن كورونا كوباء غير مسبوق تاريخيًا ووضع كل دول العالم المتقدم على المحك، وهي حقيقة عالجها في كتابه "أنوار في ليل كورونا"، كما أن الاعتراف بها كوباء غير مسبوق تاريخيًا (انظر كتاب "دروس كورونا "، للمفكر الكبير ادغار موران )، لا يسمح منهجيًا بمقارنة مواجهة هذا الوباء بين البلدان المتقدمة والأخرى المتخلفة، لأنها غير واردة في كل الحالات.

إن البلدان التي بنت منظومة صحيّة محترمة  حسب المتحدث، تواجه كورونا بشكل لا يمت بصلة بطريقة مواجهته في الجزائر وفي بلدان متخلفة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، كما أن المضاربة في الأوكسجين وسيطرة السماسرة واضطرار المواطنين إلى الاعتماد على أنفسهم لمواجهة الوباء، كلها حقائق تعكس واقع أنظمة حكم فشلت في ضمان كرامة المواطن على كل الاصعدة تقريبًا.

لهذا، يعتبر المتحدث أن المثقف مواطن قبل كل شيء، فكيف يمكن أن يصبح "غير موجود"  فجأة جراء ظهور هذه الأزمة أو تلك، لأن المثقف في مجتمع حي وحر ومنخرط في توجيه بوصلته، يشارك بفعالية في التأثير السياسي وبالتالي الاجتماعي والمجال الصحّي، ويضرب بثقله في صلب السلام الاجتماعي والنفسي بحكم الجدلية التي تتحكّم في الجسم والعقل كتوأم لا يمكن الفصل بين ضلعيه.

يُشير رمضاني إلى صدور عشرات الكتب عن الوباء في المجتمعات المتقدمة الوباء، كما لعب ومازال يلعب المثقفون دورًا حاسمًا في الفصل بين الصعوبة المبدئية وغير المسبوقة للوباء في كل المعمورة البشرية كما سبقت وإن ذكرت، وبين الفشل العام في تسييير وحل أبسط المشاكل والأزمات في مجتمعات متخلفة.

الجزائر بلد متخلف سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ومتأزم منذ الاستقلال، وقد أكد وباء كورونا صحة ذلك بشكل مأساوي يندى له حبين الإنسانية، كما أن غياب غياب المثقف النقدي إلا في حالات نادرة، بحسب المتحدث، ( حتى لا نقول العضوي كما نظر إلى ذلك غرامشي) في الجزائر، لا يسمح بالحديث عن أي دور يمكن أن يلعبه، فهو لم يقم بدور حاسم كناقد للسلطة الفاشلة من قبل، فكيف يقوم بدور ما اليوم حيال ما يسمّى بالازمة الصحية او حيال ازمات أخرى؟ يتساءل المتحدث.

محدوديةُ دورِ المُثقَّف

في رأي مخالف، يرى الإعلامي السعدي ناصر الدين أن مواجهة الوباء تكون بيد السلطة من خلال القرار وتوفير شروط التكفل بالمرضى وأيضا فرض آليات للوقاية، كما أنها أيضا بيد الأطباء من خلال مهمتهم في العلاج وفي التوجيه عبر الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، و بيد القوى السياسية والمجتمع المدني من خلال النزول الى الميدان والتوعية.

في حديثه لـ "الترا جزائر"، يؤكّد السعدي أن الوباء مس الجميع بصرف النظر عن المستوى الثقافي، وأن  المشكلة هي عدم وجود قوانين ردعية تطبق بصرامة، حيث أن هناك تسيبًا من الدولة لا يمكن أن يغطيه أي طرف آخر.

و تساءل المتحدث هنا عن الدور الذي يقوم به المثقف في موضوع الوباء وانتشاره؟ هل يقول للناس مثلًا ضعوا الكمامات ولا تخرجوا إلا للضرورة، ومت إلى ذلك؟  هذا لدى الجميع ولا يحتاج رأي المثقف.

من جهة أخرى، اعتبر السعدي ناصر الدين أن دور المثقف ليس آنيًا، هو أن يعيش اللحظة ويكتب عنها ربما لجيل آخر مثلما كتب السابقون عن مآسي وكوارث سابقة نطلع عليها اليوم من خلالهم، ويمكن أن نلوم المثقف لأنه لم يفعل شيئًا، لكن حين نفكر في ما يتعين أن يفعله نجد أننا أمام فرد من المجتمع لا يختلف عن غيره وهو أيضًا عرضة للاخبار المضللة أحيانًا وقلة الحيلة أيضًا.

في الأخير لا يرى المتحدث دورًا مميزًا يمكن أن يقوم به المثقف، نحن ربما نطلب منه ما لا يملك، وحتى في البلاد المتقدمة كانت مؤسسات الدولة والقطاع الصحي والإعلام أساس المواجهة.

لا مُعَلِّمَ للبشريةِ غير الموت

 يتساءل الأستاذ الهواري غزالي في حديث إلى "الترا جزائر"، عما إذا كان من الصدفة أن يتخلَّى النِّظام عمَّا وصفه بأحسن منظومة طبيَّة في المغرب الكبير وفي إفريقيا، تاركًا شعبا بأكمله يرزح تحت وطأة الموت، وعن دور مثقفي النِّظام الذين اعتمد عليهم لتشويه الحراك والقضاء عليه.

هل من الصُّدفة أن يختفوا بهذا الشَّكل دون أن يقوموا بإدانة النِّظام بعدما كانوا يدينون الحراك ؟ هل للمثقَّف العضوي الحراكي، من جهة أخرى، دورٌ يستطيع أن يساهم به في الذَّهاب بالمجتمع إلى تنظيم نفسه لمجابهة الكوارث القادمة؟

يؤكد الهواري غزالي أن الحديث عن دور المثقَّف والفنَّان أمام ظاهرة الطَّاعون لا معنى له، فكثير من مثقَّفي العالم لفظوا أنفاسهم عبر التاريخ، من ابن الوردي إلى موزار. إلا أنَّ الحديث الذي يقتضيه الحال هنا حسبه، يمكن حصره في تحليل طبيعة مجتمع ما بعد الثَّورة التي لم تنتصر بعد، وهو مجتمع لا بدَّ أن يتجسَّد فيه الوعي وتطغى عليه مظاهر التنظيم وعلامات التَّضامن، وكل ما من شأنه أن يجعله واقفًا أمام محاولات تفكيكه من قبل الثَّورة المضادَّة المتحالفة مع الوباء.

يضيف المتحدث أن واجب المثقَّف الآن لا يتمحور حول توعية المجتمع فحسب بل أيضا حول تقديم السبل الكفيلة لتنظيمه تنظيما يسمح له باستدراك المخاطر سريعا، فهي ليست مرحلة للكتابة، ولا للموسيقى أو للشعر، بل لمواجهة الكوارث التي ستضاف إليها محاولات انتقام النظام الجزائري من الحراك. فطبيعة الثورة المضادة التي استخدمت الإعدام في بلدان عرفت الحراك تستطيع أن تحرق الأخضر واليابس في أي مكان من العالم الموسوم بالتسلُّط الديكتاتوري، وستقوم بكلّ ما في وسعها من أجل تكسير المشاريع الوطنية للشَّعب.

في ذات السياق، يتساءل هواري إذا ما كان الانسان الجزائري سيتعلم أنَّ المشكلة الحقيقيَّة موجودة حصريًّا في النظام؟ طبقا لما هو عليه المثل الجزائري : كي يعواج الخط، يعواج من الفَرد الكبير. (الفرد هو الثَّور)، كما أنه في ظلِّ الأزمات، تظهر الدُّول ويظهر الرِّجال أيضًا، فكم من دولةٍ لم تتخلَّ عن شعبها، وكم من طبيب وممرِّض قضى نحبه وهو يعالج من أوشكوا على الموت.

الهواري غزالي: لننتظر، إذا لم يكن الموت مُعلِّمًا للبشريَّة فلا مُعلِّم لها مطلقً

 

لنتذكَّر التَّضحيات التِّي قدَّمها خيرة أطبائنا ورجالنا بموتهم، فهل ستذهبُ سدًى؟ هل موتهم سيكون مجَّانيًّا بالنسبة للجزائريِّين؟ ألا ينبغي أن يعيد الجزائري النَّظر في طبيعة أمَّته التي تمكَّنت منها العنكبوت ببيتها الوهن الموحش؟ ألا ينبغي أن يُعيد الجزائري بناء دولته بتغيير نظامها السياسي البائد؟ لننتظر، يقول الأستاذ الهواري غزالي، فإذا لم يكن الموت مُعلِّمًا للبشريَّة، فلا مُعلِّم لها مطلقًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 وزير الصناعة الصيدلانية يدعو مصنعي الأكسجين لمضاعفة الإنتاج

معهد باستور: سلالة "دلتا" الهندية تنتشر بنسبة 71 بالمائة في الجزائر