ماذا لو أن جزائريًا فرضت عليه ظروف الحياة أن يهاجر لأقصى بقاع الأرض؟ فيحط رحاله في الأرض الذي تشرق فيه الشمس للمرّة الأولى كلّ يوم، سيذوب وسط حياةٍ جديدةٍ، في مجتمعٍ لا يشبهنا في شيء، قد يتجوّل ذلك الجزائري في حي شيبويا حيث توجد أكبر محطّة للقطار في البلاد، وأحد الأحياء الأكثر زحمة في طوكيو، فيسمع أغنية للشاب خالد أو الشاب مامي صادرة من محلّ لبيع الأسطوانات الموسيقية، قد يدخل لذلك المحلّ ليجد مالكه السيّد تاكاشي الذي أصابته "عدوى الراي"، بعد أن اكتشفه بفضل صديقه الأستاذ يوشي كاسويا.
يوشي كاسويا: كان أكثر ما يجذبني في الراي، أغاني الشيخة الريميتي
باريس.. هناك بدأ كل شيء
في 23 يناير/جانفي 1986، احتضنت ضاحية بوبينيي في العاصمة الفرنسية باريس، أوّل حفلٍ غنائي لأغنية الراي خارج الجزائر، كان الحفل مخصّصًا بالكامل لأغنية الراي. حضره كثير من مؤديي هذا الطبع الغنائي الجزائري الذي بدأ يأخذ لنفسه مكانًا في قلوب الجزائريين في الداخل والخارج، وكان بالنسبة للمغتربين الجزائريين أنيسًا في ليالي المهجر الباردة، واعتبرت أغانيه كصندوق ذكريات يُفتح كلما انطلقت أغنية في ريبارطواره، وجرحًا غائرا يُفتح كلما انتهت تلك الأغنية. في تلك الحفلة لم يكن الجزائريون والمغاربة العاشقون لأغنية الراي فقط من حضروا الحفل؛ بل كان بين الجموع شابٌ أتى لعاصمة الأنوار لطلب العلم، قادمًا من أرض الشرق البعيدة، من أرض اليابان، في تلك الليلة بدأت قصّة حبّ غريبة بين يوشي كاسويا وأغنية الراي.
اقرأ/ي أيضًا: رشيد طه يُصدر ألبومه الـ 11 من العالم الآخر
في تلك الليلة الباردة، التي اشتعلت دفئًا من صيحات آلاف الجماهير، اكتشف يوشي كاسويا، ولع الجزائريين الذي كان يزاملهم في أقسام الدراسة، ويخالطهم في شوارع باريس لأغنية الراي، في تلك الليلة رقص يوشي على أنغام كل من الراحلة الشيخة الريميتي، والشاب خالد، والشاب مامي وفضيلة وصحراوي وآخرون.
قصة حب..
يقول كثيرون إن تلك الليلة في بوبينيي، كان لحظة انتقال أغنية الراي من ظلام الملاهي الليلية، إلى نور الشركات العالمية والأستوديوهات الضخمة، لكن لم يعلم كثيرون أيضًا أن تلك الليلة زرعت عشقًا جديدًا في قلب شابٍّ ياباني. إنها حقًا عالمية الراي في أكبر تجلياتها. قد يبدو غريبًا أن تتناول طبق سوشي تحت إيقاعات أغنية الراي.
يروي الأستاذ يوشي كاسويا، قصّته مع الراي في حديث مع "الترا جزائر"، فيقول: "كان أكثر ما يجذبني في الراي، أغاني الشيخة الريميتي.. إنها امرأة قاومت كلّ شيء وصنعت لنفسها إسمًا، رغم أنّ ما كانت تقوم به منبوذ ومرفوض في الوسط الذي عاشت فيه، كانت أغانيها تعجبني كثيرًا.. أحبّ ذلك المزيج الذي تمنحه للڤلال والڤصبة".
ويضيف محدّث "الترا جزائر"، حول تجربته الموسيقية مع أغنية الراي "أردت الاشتغال في الكثير من الأحيان على أغنية الراي، فأنا الآن باحث في الموسيقى العالمية. أتيت للجزائر عدّة مرات، زرت وهران والعاصمة ومستغانم، والتقيت مهتمّين بالراي، كالحاج ملياني الذي التقيته في مستغانم، وأعتبره موسوعة في المجال. الحديث معه يجعلك تغوص في سوسيولوجيا أغنية الراي. ونصرالدين قفايطي الذي كان أحد المساهمين الفاعلين في نقل الراي إلى الساحات والقاعات العالمية. لقد كانت لقاءاتي معهم مثمرة ومكّنتني من الكتابة حول الموضوع ونقل معلومات لم أكن أعرفها عن هذا الفنّ العظيم".
حسني في طوكيو..
دأب يوشي منذ سنوات، على إحياء ذكرى وفاة الشاب حسني في مدينة طوكيو، "في كل 29 أيلول/سبتمبر من كل عام، نقوم بتنظيم تظاهرة أسميناها (ألجيريا زووم)، هذا العام نحن في الطبعة التاسعة"، لقد اخترنا تاريخ وفاة حسني، لأنّه من جهة أيقونة فنّ الراي، ومن جهة أخرى لأن تلك الحادثة كانت يومًا أسودًا في تاريخ أغنية الراي".
في هذه التظاهرة يحضر المئات من اليابانيين والجزائريين القاطنين باليابان كما يحضر أشخاصٌ من جنسيات أخرى، فبالإضافة للأغاني التي يتمّ إذاعتها عبر مكبرات الصوت في الحيّ الثقافي بطوكيو، تنظّم مأدبة عشاء تزيّنها الأطباق الجزائرية، كما يحضر أفراد الجالية الجزائرية هناك بلباسهم التقليدي، لقد صار بمثابة عيد سنوي للجزائر في طوكيو. في ذلك الحفل الذي صار يساعد أيضًا على تنظيمه منذ ست سنوات، شابٌ جزائري من قسنطينة هاجر إلى اليابان يُدعى عمر عوامرية.
لطالما كانت أغنية الراي التي خرجت من وسط المحن والويلات مصدرًا للفرح
يرقص اليابانيون في ذلك على أنغام الراي، فطالما كان هذا النمط الغنائي، الذي خرج من وسط المحن والويلات مصدرًا للفرح، وطالما فرض نفسه كسفيرٍ فوق العادة للجزائر.
اقرأ/ي أيضًا:
"عبد القادر يا بوعلام".. قصيدة صوفية أوصلت الراي إلى العالمية
إطلاق اسم الشيخة ريميتي على ساحة في باريس