تعود اليوم في الجزائر، الذكرى الـ 14 لميثاق السلم والمصالحة الوطنية، التي أقرّها رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة في استفتاء شعبي يوم 29 أيلول/سبتمبر 2005. هي خطوة حملت مشروع التسوية القانونية والسياسية، للمسلّحين الإسلاميين الذين التحقوا بالجبال في فترة التسعينات، ودعت إلى محو آثار الأزمة الأمنية التي شهدتها الجزائر في ذلك الوقت، لكنّ القضية أعيد فتحها في فترة الحراك الشعبي المستمرّ في الجزائر منذ 22 شبّاط/فيفري الماضي، وُطرح عديد الأسئلة المرتبطة بالأزمة الأمنية، وفُتحت ملفّاتٍ بقيت عالقة في الأدراج لفترة طويلة من الزمن.
مرور السنوات وتعاقب الحكومات لم يطوِ ورقة المفقودين والمختطفين قسريًا في الجزائر
للحقيقة وجهان!
في يوم 29 أيلول/سبتمبر 2005، وافق الجزائريون بالأغلبية، على قانون المصالحة الوطنية بنسبة 85 في المائة، إذ احتوى القانون على حزمة من المواد والقرارات، التي تهدِف إلى إحداث قطيعة مع الفترة الدموية التي عاشتها الجزائر، ومحو مخلفات سنوات الدم والدموع، خصوصًا ما تعلّق منها بإلغاء كل المتابعات القضائية والقضايا المتّصلة بنشاط آلاف المسلّحين الذين تخلّوا عن السلاح.
اقرأ/ي أيضًا: مصير المفقودين في العشرية السوداء
بناءً على ما جاء في هذا القانون، مُنح المسلّحون "الإرهابيون التائبون" في الجبال ورقة العفو، مقابل ترك السلاح، وتمّ تعويض عائلات المختفين قسريًا، وعددهم بحسب أرقام رسمية تجاوز 7000 مفقود، بينما يُشير المرصد الوطني للحقوق الإنسان إلى أزيد من 14 ألف مفقود، كما تمّ منح تعويض مادي لعائلات ضحايا الإرهاب.
ونصّ قانون المصالحة؛ على تدابير أخرى تتصل بتسوية وضعية الأشخاص الذين فُصلوا من مناصب عملهم، بشبهة الانتماء إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة أو دعم المجموعات المسلّحة.
في الوقت الذي تمت تسوية آلاف الملفات المتعلّقة بالمفقودين، ما زالت مئات العائلات الجزائرية تبحث عن حقيقة مصير أبنائها وترفض التعويضات، داعية إلى الكشف عن الحقيقة الكاملة وتطالب برفاتهم ومعرفة أماكن دفنهم. هنا، يقول شقيق المفقود غرزول سليم، وهو أحد المفقودين سنة 1995، في حديث إلى "الترا جزائر"، إنّ بحثّه عن حقيقة ما جرى لشقيقه لم يتوقّف، وما زال إلى اليوم يقصد العديد من الإدارات للبحث عن ملفّات أخيه المفقودة، ويساند الوقفات الاحتجاجية أمام منظمة حقوق الإنسان في الجزائر.
ليست عائلة غرزول الوحيدة التي تطالب بفتح ملّف ابنها المختفي قسريًا، بل هناك عشرات العائلات التي استغلّت الهبّة الشعبية السلمية في الشارع، لتطالب بحقّها الإنساني في معرفة مصير أبنائها، رافضة كلمة" انتهى"، مثلما يقول السيّد غرزول، معتبرًا أن "أكثر شيء يؤلم عائلات المفقودين، هو تجاهل السلطات، ورغبتها في طيّ الملف، ضاربة عرض الحائط رغبة أهالي الضحايا في معرفة مصير أبنائهم حتى ولو كانت هذه الحقيقة مأساوية".
الشارع يحيي الجراح
في كل جمعة من جمعات الحراك الشعبي، تتجمّع عائلات مفقودي العشرية السوداء، في مربع في وسط حشود المتظاهرين في شوارع العاصمة الجزائرية، حاملة معها صور أبنائها وشعارات تُطالب بكشف مصيرهم، ولعلّ أهم هذه الشعارات هي " كليتوا لبلاد وزدتوا العباد"، وشعار "رجعونا ولادنا ندخلوا لديارنا"، وهي شعارات تدلّ على حنق العائلات التي لا زالت تنتظر غائبًا، منذ ما يزيد عن ربع قرن.
الحراك الشعبي "أيقظ البركان النّائم"، بحسب تعبير نور الدين ملزي، الباحث في العلوم السياسية، مضيفًا أنّ ملفّات المفقودين والمختطفين قسريًا، والمعتقلين السياسيين، وضحايا المحاكم الخاصّة، تظلّ مسألة عالقة وذات حساسية كبرى لدى منظومة الحكم خلال العشريتين الأخيرتين، على حدّ قوله.
يوضّح ملزي في حديث إلى "الترا جزائر"، أنه "من واجب السلطات الجزائرية أن تجد مخارج لهذه الملفّات التي سترثها الأجيال، حتى لا تصبّح ثغرة يُمكن توظيفها في كل غضب شعبي".
يرى الباحث، أن غلق هذه الملفّات لن يكون سهلًا، لكنه ممكن التحقيق في ظلّ "الوعي الشعبي بضرورة الإبقاء على مكاسب السلم والمصالحة الوطنية ونتائجها الإيجابية، خصوصًا في إعادة الأمن والسلم والطمأنينة للجزائريين، وبدء مسار التنمية مضيفًا أنه لا يُمكن لأيٍّ كان، أن يفرّط في نعمة السلم، داعيًا إلى "إعادة النظر في هذه الملفّات وإيجاد تسويات قانونية وإنسانية".
واعتبر ملزي، أن هذه الملفّات تبقى نقطة سوداء في فترة نظام الرئيس بوتفليقة، إذ وعد في عدّة مناسبات أنه "سيكفكف دموع النساء والأمّهات" بصفته القاضي الأوّل في البلاد"، لكنّه وجّه كلمات قاسية للأرامل والأمّهات ذات مرّة حين قال "أبناؤكم ليسوا في جيبي".
مرور السنوات وتعاقب الحكومات لم يطوِ ورقة المفقودين والمختطفين قسريًا، والمعتقلين السياسيين ضحايا المحاكم الخاصّة، والذين يقبعون منذ منتصف التسعينات في السجون إلى اليوم، وأيضًا ملف المعتقلين في محتشدات الصحراء من مناضلي حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلّ، حيث ستظل هذه الملفّات في نظر الحقوقي السعيد عباد، ألغامًا وإرثًا ثقيلًا من الماضي، موضحًا في تصريح إلى "الترا جزائر"، أنّ السلطات راهنت على عامل الزّمن والنسيان، لإنهاء هذه الملفات، غير أن عوامل كثيرة أسهمت في عودة الحديث عن الملفات رغم استفتاء الجزائريين على قانون السلم والمصالحة الوطنية، على حدّ قوله.
يعتقد المتحدّث، أنّ أولى الأسباب التي أعادت فتح هذه القضايا، هي المظاهرات السلمية التي تعرفها الجزائر طيلة أزيد من سبعة أشهر، حيث شجّعت العائلات إلى التحرّك من جديد، للمطالبة بمعرفة مصير أبنائها، أمّا ثانيها؛ فهو مناخ الحرّية الذي يعيشه الشارع وما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار وتغطيات وتساهم في انتشارها إعلاميًا.
ملفات عالقة رغم التسوية
في عام 2011، قدّمت خلية المساعدة القضائية المكلّفة بتطبيق ميثاق السلم والمصالحة، حزمة من الاقتراحات على رئيس الجمهورية بوتفليقة، تتعلق بإدراج 15 مادّة تكميلية لميثاق السلم والمصالحة الوطنية، تمسّ عدّة فئات من ضحايا الأزمة الأمنية، منها الأطفال المولودون في الجبال من أبناء عائلات الجماعات المسلّحة، والنساء المغتصبات، والعمال المسرّحون و ضحايا الخسائر الاقتصادية.
وتشملُ هذه المقترحات؛ تسوية وتعويض معتقلي الصحراء من مناضلي حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلّ، الذين احتجزتهم السلطات الجزائرية في بداية التسعينات، في محتشدات بالصحراء، لمنعهم من الالتحاق بالمجموعات الإرهابية المسلّحة.
بعد مرور 14 سنة من الاستفتاء على قانون المصالحة الوطنية، تحصي الجزائر اليوم قرابة 500 طفل ولدوا في الجبال من عائلات المسلّحين، حيث تمّ الفصل في 56 ملفًا فقط من ملفاتهم، بسبب عدم توفّر الشروط، منها تلك المتعلقة بغياب أحد طرفي العلاقة الزوجية.
تحصي الجزائر اليوم قرابة 500 طفل ولدوا في الجبال من عائلات المسلّحين
رغم التسويات التي أقرّتها السلطات الجزائرية بخصوص الملفات المرتبطة بالأزمة الأمنية التي عاشتها في تسعينات القرن الماضي، إلا أن المحامي عبد الغني بادي الذي تبنّى هذه القضية، طالب في تصريحات صحفية بـ "إنهائها لأنها تشكّل مأساة حقيقية"، معتبرًا "أن المحاكم الخاصة هي محاكم غير دستورية وتم إلغاؤها، لكن أحكامها ما زالت سارية المفعول طوال هذه المدّة".
اقرأ/ي أيضًا: