29-مارس-2021

سمية أرزقي وزوجها بلال جبري (الصورة: الترا جزائر)

بممسحة خاصّة يمرّر بلال جبري (32 سنة) يده على قرص "الفينيل" الموسيقي الكلاسيكي، وبأُذنٍ مشدودة إلى صوت المُشغّل المبحوح، يسترجع ذكرياته الجميلة رفقة زوجته سمية أرزقي (29 سنة) أيام الجامعة، وجلسات الأدب الإنكليزي ونقاشات الفنّ الأفريقي التي كانت تجمعهما سويًا في ذلك الوقت.
يربط محدثنا ندرة هذه الأقراص الكلاسيكية بمنحها كهدايا لرؤساءٍ وملوكٍ وأيضًا لسفراء عدد من الدول
يقول بلال، عاشق جمع أقراص "الفينيل" القديمة، إنّ علاقته بزوجته انطلقت من حلقات الفكر الجامعي، إلى أن امتدت نحو عشقهما  في تجميع "ديسكات" الموسيقى الكلاسيكية وإعادة بعثها كتراث ثقافي مهدّد بالاندثار.
يؤكّد في حديثه لـ "الترا جزائر" بأنّ حبّه وزوجته لهذا المجال لا يسعى إلى تحقيق أيّ مدخول تجاري، إذ أنهما يصرفان المال مقابل استرجاع طبوعٍ فنيّة وتسجيلات نادرة لشخصيات صنعت اسمًا لها في عالم الارتجال والبروفات والمواويل.

كما أنهما يُجمعان على أن الاستماع إلى الأغنية من الأسطوانة له وقع خاص مختلف، لا يجدانه عندما يستمعا إليها من الراديو أو من شريط كاسيت أو عبر نسخة إلكترونية، لذلك حرصًا على جمع النوادر من الأسطوانات والحفاظ عليها كإرث عائلي، على حدّ تعبيرهما.

يعود بنا بلال وهو يهزّ رأسه مع إحدى الأغاني التي رفعها، الراحل عيسى الجرموني، على مسرح الأولمبيا في فرنسا، سنة 1936، إلى بداية عشق "الديسك" أو الأقراص الكلاسيكية الكبيرة، إذ يقول: "كنت في جولة رفقة زوجتي إلى إحدى المكتبات بقلب العاصمة لاقتناء كتب باللغة الإنكليزية، غير أني وجدت نفسي أحمل قرصًا موسيقيًا كبيرًا محاولًا إقناع صاحبه ببيعه لنا".
تقاطعه زوجته سمية أرزقي مستدركة: "القصّة انطلقت من مكتبة النجمة لعمي مولود بالعاصمة سنة 2013، قصدناها ونحن طلبة بجامعة بوزريعة بحثًا عن كتب إنكليزية، لنجد أنفسنا أمام باقة من الأقراص الموسيقية الكلاسيكية".
وتكمل: "سألت بلال هل هذه هي الأقراص التي نسمع عنها حكايات الجدّات والأمهات وعشقهنّ للموسيقى القديمة ومختلف طبوعها؟"، لتواصل: "وقتها اشترينا ثلاثة أقراص وكنّا في كل مرّة نشتري بحسب الميزانية الطلابية آنذاك".

تواصل السيدة سمية سرد بدايتها مع زوجها في تجميع الأقراص بحبٍ، مردفة بالقول: "كنت أخبئ الأقراص التي نشتريها عندي في البيت (..) وهنا أتذكر أنني في تحضيري لجهاز العروس خصّصت مكانًا هامًا منه لأقراص الفينيل القديمة".

تسترسل ضاحكةً: "في يوم من الأيام لا متني أمي عن هذا الأمر، وقالت كيف لعروس أن تدخل بيت زوجها بعلبة أقراص موسيقية وكتب قديمة؟".
كما تستذكر محدثتنا أنّ "أعزّ هدية قدّمها لي زوجي في زفافنا كانت عبارة عن جهاز تشغيل الأقراص الكلاسيكية الجرامافون؛ "ومن هنا لم تكُفّ أسطوانة حبنا عن الدوران والاستمتاع بالأنتيكات الموسيقية"، تضيف السيدة جبري.
مكتبة "ديسكات" نادرة
يحرص ثنائي الأسطوانات الكلاسيكية على المحافظة عليها في مكتبة تبعث على الحنين المتقاسم، إذ تضم رفوفها زهاء 500 قرص "فينيل"، أغلبها لأسماء جزائرية، لكن هناك بعض الأسطوانات لمغنيين أجانب وفرق غنائية شهيرة.
يقول بلال متحدثًا عن "الديسكات" الموجودة بالمكتبة، إن غالبيتها جُمعت من مهتمين بهذا الفنّ، مشيرًا إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي ساعدتهما مؤخرًا في تجميع الأسطوانات، "فهنالك مجموعة لهوّاة هذا المجال على الفيسبوك اسمها (فينيلز هووم ألجيريا)، نتصيّد فيها أندر الأغاني والمقطوعات".
حين تتجوّل في مكتبة بلال وسمية، ستجد أسطوانات نادرة توّثق لمزقٍ من التاريخ الثقافي والهوياتي لفترات زمنية مضت؛ فهنالك باقة من تراثنا الثقافي، التي تضمُّ القامات الفنية الجزائرية، على غرار الشيخة التيطمة، مريم فكاي، الشيخ دالي، عيسى الجرموني، الشيخ حسيسن، بوجمعة العنقيس، الشيخ العنقى، وأيضًا الشيخ حمادى، الذي يعتبر ألبومه من النوادر.

وفي باقة من تراثنا الثقافي دائمًا، يضيف بلال، اقتنى مؤخرًا ثلاث باقات أقراص لمهرجان الموسيقى الأندلسية بالجزائر (1967، 1969، 1973)، ويحمل "الديسك" الواحد نوبات أندلوسية نادرة جدًا وضيوف شرف من سوريا والعراق والعالم العربي.

ويربط محدثنا ندرة هذه الأقراص الكلاسيكية، حتّى في وقتها، بمنحها كهدايا لرؤساءٍ وملوكٍ وأيضًا لسفراء عدد من الدول، حيث اشترى الفينيل الخاص بالأندلسي من دبلوماسي جزائري سابق في دولة أفريقية، كان في تلك الفترة ضيفًا في إحدى طبعات المهرجان الأندلسي.
سيجد الزائر للمكتبة، من بين الأسطوانات التي جمعها الزوجان، أسطوانة خاصة بالفنان امحند إقربوشن، المُلقب بـ "موزار الجزائر"، صاحب الإبداعات العالمية في التلحين والتوظيف الموسيقي الرائع في سماء السمفونيات الخالدة، الذي صدحت سيمفونياته في النمسا وإنكلترا أمام عمالقة الموسيقى.
لمسة خاصّة
يرفض بلال أن يلقّب بهاوي تجميع الأقراص القديمة، فهو يقول عن نفسه بأنه هاوٍ على طريقته الخاصّة، وذلك ينعكس على ما يقوم به من عمل وتصميم وإعادة بعثٍ لهذا التراث؛ فيقول إنه "في رحلات تجميع الأسطوانات واجهت كثيرًا منها بدون أغلفة ومنها من ظلت حبيسة المتاجر والمنازل كقطع ديكور غير مستخدمة".
ويردف: "هذا الأمر آلمني كثيرًا ودفعني إلى تجديدها، بحكم تخصصي في ميدان تصميم الغرافيك، فأنا وصديقي سيد علي (مختص في الغرافيك) نشتغل أحيانًا على تصميم واجهات وأغلفة جديدة للأسطوانات التي لا تملك ذلك".
وعن الأسلوب الفني المتبع في تصميم الأغلفة لأقراص "الفينيل"، يؤكّد بأن "العمل ليس سهلًا لأننا نقوم ببحث معمّق في تاريخ الأغاني والبيئة الفنية لصاحبها، حتى يتسنى لنا التفكير في شيء جمالي يليق بهذه اللوحة الغنائية".

وفي الصدد، يطرح بلال إشكالية غياب المادة الأولية، كصور الفنانين التي تعرقل عمله وتصعّب من تصميمه لأغلفة تحمي الأسطوانات من التلف. 

كما أشار إلى أنه يحاول من عمليات التجديد على الأسطوانات ترك لمسته الفنية، من خلال العمل بالرمزية لتمرير رسائل تجعل المتمعن فيها يتشوّق إلى سماع الأغاني الموجودة في القرص؛ مشددًا على أن لمسته كذلك تحاول أن تُبقي على الهوية الإرث الثقافي الذي تركه الفنان. على حدّ تعبيره.
أسطومانيا.. الفكرة والمشروع
يسعى الزوجان بلال وسمية إلى إطلاق مشروع رقميّ يحمل اسم "أسطومانيا"، بهدف إعادة بعث التراث الموسيقي القديم، الموثّق على أقراص "الفينيل"، وتشرح سمية المشروع قائلة: "أسطومانيا هي كلمة مكونة من مصطلحين أولها يعني الأسطوانة والثاني (ميلومانيا) أي المهوس بالغناء والموسيقى".
تضيف المتحدّثة، أن مشؤوعهما الرقمي سيكون في بدايته على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها المنصة رقم واحد حاليًا لمتابعة الموسيقى والفيديوهات، و"في أسطومانيا نسعى إلى نفض الغبار على كل ما هو موثّق في أقراص الفينيل الكبيرة".
وتوضّح السيدة جبري أن "المشروع سيكون عبارة عن فيديوهات تعريفية قصيرة لفنانين جزائريين تناساهم الزمن، مثال: الشيخ الخالدي، أحمد مسلاين، أحمد مالك، الشيخ حمادة..، أو مقاطع موسيقية نادرة لهؤلاء، ستكون في فيديوهات من تصميمنا ونروّج لها عبر إنستغرام أو فيسبوك".
يُردف بلال في السياق نفسه، أن الموضوع لن يقتصر على الترويج المجاني (باعتبار الفكرة غير ربحية)، بل سيكون فيه جانب بحثي، وهو ما سعيا إليه كزوجين محبّين لهذا الميدان، مشيرًا إلى أنه: "في عمليات بحثنا عن الفنانين القدامى وجدنا أن الكثير منهم لا نعرفه ولا نسمع عمّا قدّمه من موسيقى".
هنا، يستشهد بلال بالفنان حمسي بوبكر، فهو مازال على قيد الحياة ومقيمٌ حاليًا في بلجيكا ويواصل هوايته في الرسم التشكيلي، وقبلها كان كاتبًا وملحنًا ومؤلفًا للأغاني الأمازيغية، كما أنه من تلامذة مولود معمري، وكان له الدور في مساعدته في جمع التراث الأمازيغي العرقي.
ويسترسل: "كما أن الفنان حمسي واصل دراساته في الموسيقى العرقية بالخارج، وترك عدّة أغاني نملك منها قرصًا واحدًا، تجدُ في غلافه ترجمة الكلمات من الأمازيغية إلى لغات أخرى بإمضاء مولود معمري".
ويختم بلال: "المشروع نريده أن يخلق جسرًا بين الأجيال ويتطوّر مستقبلًا من الحديث عن الموسيقي والتعريف بالفنانين وأغانيهم، إلى الكُتاب والأدباء وكل ما يتعلق بثقافتنا وموروثنا الجزائري".

مشاريع وعقبات

يحضّر الثنائي برفقة عدد من هوّاة تجميع أقراص "الفينيل" إلى إطلاق معرض يجمع كل المهتمين بهذا المجال، من مختصّين ومؤرخين وفنانين، من أجل إثارة نقاش موسّع عن الموسيقى القديمة وأيضًا كل ما يتعلق بالثقافة في ذلك العصر.
المعرض سيكون نهاية شهر نيسان/أفريل المقبل، حيث سنناقش ما يحمله القرص الموسيقي الكلاسيكي والشخصية التي صنعت ذلك الفن، إذ أن النقاش لا يُراد منه تناول الجانب الفني وانتهى..، بل البحث في خلفيات هذا القرص الموسيقي وسبب نجاح أو فشل صاحبه، يقول المتحدّث.
كما يشدد محدّث "الترا جزائر"، على أن الفكرة أيضًا ترمي إلى إخراج هواة وعشاق "الفينيل" من الفضاء الافتراضي إلى الواقعي، حتى يكون هنالك احتكاك وتعارف أكثر بين أصحاب هذا الفن التراثي المتناثر.
يطلب بلال وسمية من الجهات المعنيّة مرافقتهما في مشاريعهما الباعثة للأسطوانات الكلاسيكية
هنا، يطلب بلال وسمية من الجهات المعنيّة مرافقتهما في مشاريعهما الباعثة للأسطوانات الكلاسيكية، من خلال فتح باب الأرشيف أمامهما والتعاون معهما، كما يأملان من مؤسّسة التلفزيون العمومي والإذاعة الوطنية منحهما صورًا ومقاطع لفنانين وموسيقيين، قصد إعادة إبرازها لمحبيها في مشروع "أسطومانيا".