يعتقد ملاحظون بتراجع حضور الإعلام في الجزائر خلال السنتين الأخيرتين رغم عدد المؤسّسات الساحة الإعلامية، بوجود أزيد من 120 موقعًا إلكترونيًا وعدد من القنوات التلفزيونية والإذاعية الخاصّة، بالإضافة طبعًا إلى القنوات العمومية الرئيسية والمتخصّصة.
نقابة ناشري الإعلام: عشرات المؤسّسات الإعلامية وصلت إلى حافة الإفلاس في ظلّ التوزيع غير العادل للإشهار المؤسساتي العمومي
ويشهد الوضع الإعلامي في الجزائر انحسارًا في المهنة من حيث الآداء وسكون التغطيات الإعلامية واصطفافها رفي خط السلطة، واختفاء استوديوهات التحليل والنقاش وتحييّد السياسيين المعارضين عنها، رغم وجود بعض الهوامش من الحرّيات التي تستغلها بعض الصحف المحسوبة على القطاع الخاص، ما يشير إلى هبوب عاصفة ستنسف -حسب مهنيين - نضالات سنوات من أجل الظّفر بهامش الحرّيات منذ أزيد من ثلاثة عقود.
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام والموجة الثانية للحراك.. ضغوطات الشارع والسلطة
في هذا السياق، يطالب صحافيون في القطاع الخاص بشكلٍ واضح، بإنقاذ المؤسّسات الإعلامية التي تعاني الإفلاس، وإحالة العشرات من الصحافيين على البطالة، رغم الوعود التي قدمتها وزارة الاتصال في تسوية وضعية القطاع.
الرئيس مطالب بالتدخّل
في رسالة وجّهتها نقابة ناشري الإعلام الجزائرية، إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، دعا المعنيون السّلطات إلى التدخل في تسويات إعلامية وقطاعية وقانونية لهذه المؤسسات، وإعادة النظر في "تنظيم القطاع بالتشاور مع الفاعلين المهنيين"، بهدف "بناء منظومة إعلامية قوية على أسس سليمة، ووفق مقاربة تأخذ بعين الاعتبار التطورات الحاصلة في مجال الإعلام محلياً ودوليًا، تشريعيًا واقتصاديًا".
وناقش عدد من المسؤولين عن المؤسّسات الإعلامية والصحف والمواقع الإلكترونية واقع العمل المهني في الجزائر، ونتيجة لذلك ذكر بيان النّقابة المهنية أن "عشرات المؤسّسات الإعلامية وصلت إلى حافة الإفلاس، في ظلّ التوزيع غير العادل للإشهار المؤسساتي العمومي (إعلانات حكومية)، خارج كل المعايير المهنية والتجارية المتعارف عليها".
وفي نفس الصّدد، أكّدت النقابة على أن ملف الإشهار الحكومي لازال المشكل الأساسي، بسبب استمرار "الغموض في تسيير الإشهار العمومي وتوزيعه بطريقة غير عادلة، رغم التغييرات التي مست المؤسّسات المختصة، المسيرة أو المشرفة على إدارة الملف، ما يطرح الكثير من التساؤلات".
وتبعًا لذلك طالبت النقابة في بيانها السلطات المعنية بـــ"ضرورة وضع معايير انتقالية لتسيير الإشهار الحكومي، إلى حين إصدار قانون الإشهار وذلك ما جعل الوضع يزداد تعقيدًا بلغ حدّ عجز المؤسّسات الإعلامية عن الوفاء بالتزاماتها المالية، مع شروع مؤسسات عديدة في تقليص عدد الصحافيين والعمال".
ووصفت النقابة الوضع الإعلامي في الجزائر بحالة " التعويم" و" فوضى" تحتكم في تسيير القطاع البالغ الأهمية، حمّلت نقابة ناشري الإعلام ومسؤولي الصحف المجتمعين، اليوم، "السلطات مسؤولية حالة تتناقض مع الخطاب الذي تروجه السلطة في خطاباتها السياسية، والواقع الفعلي في المؤسسات الإعلامية.
مهنيًا دائمًا، تناول البيان ما نعته بـ"تراجع مستوى الأداء المهني، جرّاء الوضع المالي المزري للمؤسسات الإعلامية وغياب التكوين وانعدام الهيئات الضابطة للمهنة".
وفي هذا الإطار، اشتكت النقابة بالانتقائية في المشاورات مع مسؤولين في القطاع من قبل وزير الاتصال محمد بوسليماني وذلك ما ينافي أوامر الرئيس تبون بضرورة "فتح حوار حقيقي وجدي مع الشركاء المهنيين".
وعليه، طالبت النّقابة وزارة الاتصال "بفتح حوار جدي وشامل مع الفاعلين في القطاع دون إقصاء ولا تمييز"، لافتةً إلى "تعثر مسار الإصلاحات التي وعد بها رئيس الجمهورية في قطاع الإعلام، فمنذ ما يزيد عن السنتين، لم تتمكّن وزارة الاتصال من إحراز أي تقدم في إصلاحات القطاع، بل ظلت سياسة التسويف والتسيير بالوعود سيدة الموقف".
وبخصوص مشروعي قانوني الإعلام السمعي البصري، نفت النقابة أن تكون طرف في المشاورات مع الوزير، مؤكّدة أن هذا المجال لم يحظ بنقاشات عميقة ولم يعرف تشريح كافي للوضعية التي يعانيها وهو ما يعكس عدم وجود إرادة حقيقية في النّهوض به.
أمّا فيما تعلّق بالصحافة الإلكترونية، لفت البيان إلى العديد من العقبات التي تشهدها في ظلّ استمرار الضبابية والغموض في الأطر القانونية التي تسيّرها، خصوصًا عدم "استفادة المؤسسات الصحفية الإلكترونية من الإشهار العمومي إلى حدّ الساعة رغم الوعود المتكررة للسلطات العمومية"، بسبب "تماطل السلطات المختصة في إيجاد حلول لهذا الملف".
وبصرف النّظر عن ردود السلطات، فإن المواقع الإخبارية الإلكترونية النّاشطة في السّاحة الإعلامية في الجزائر، تنتظِر الدّعم الحكومي، وتنفيذ وعود الرئيس والحكومة في تسوية وضعية القطاع عمومًا.
تشريح للمهنة
يعتقد مختصّون في الإعلام أن المهنة تعاني من تراكمات السّنوات الماضية، إذ ترنّحت المنظومة الإعلامية بين قطبية ثنائية مدارها السّلطة السياسية والمعارضة، بكل تجلياتها السياسية وخبايا المصالح، خصوصًا في العشرين سنة الأخيرة، إن سلّمنا أن عهد بدايات التعددية السياسية والإعلامية كان مخاضا عسيرًا، بعد عمليات "إحماء إعلامي" شهدتها فترة ما بعد أحادية النّظرة والخطّ التحريري منذ الاستقلال.
وتفيد بعض الكتابات خلال العقدين الأخيرين أنّ الإعلام الجزائري هو تركة موروثة أولًا عن عهد الحزب الواحد والخطّ الواحد والنظرة الواحدة والتفكير الواحد، وثانيًا عن أزمة أمنية عصفت بمختلف القطاعات وكان الإعلام أحد أجنحتها التي قطعت بسبب العشرية السوداء، وثالثًا فترة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة التي أنجبت واجهات إعلامية متعدّدة لتمييع الاختلاف في السّردية الصحافية وتجميل صور الفساد الذي فضحه القضاء منذ أزيد من سنتين.
بين هذه الأطياف، طفت معاناة الإعلام، وبرزت مسبّبات مشكلاته بشكلٍ واضح بحسب إفادة أستاذ الإعلام بجامعة الجزائر بوجمعة رضوان، إذ قال إن "المنظومة الاعلامية قائمة على الريع ( موارد المال الحكومي ) والدعاية، لافتًا إلى أن استفادة المؤسّسات الإعلام من الموارد المالية التي تغدق بها المؤسّسة الحكومية المتحكمة في الإشهار والإعلانات مرتبط حسبه بـ "ممارسة الدعاية للسلطة وشبكاتها وأذرعها الادارية والاقتصادية والحزبية و الجمعياتية".
ودعا بوجمعة إلى بناء ما أسماه بـ "براديغم جديد مع منظومة الريع والدعاية"، مشددًا إلى أن "ممارسة المهنة وفق قواعدها واخلاقياتها لا يمكن أن تتم دون أحداث القطيعة مع هذه المنظومة الإعلامية القائمة على الريع والدعاية".
أعراض مرض
ممارسة لمهنة في الجزائر، أصبح شماعة تعلق عليها الصحافة آلامها، وجراحها، إذ لا يمكن أن نتحدث اليوم عن مهنة يتم تدريسها في عشرات الكليات المتخصصة في الإعلام عبر ولايات الجزائر، وفي الواقع يتمّ تكميم الأفواه، وتركيز النظرة الأحادية على قضايا دون قضايا أخرى، هذا ما طرحه طالب جامعي ماستر إعلام ومجتمع من كلية الإعلام بجامعة وهران غرب الجزائر.
الجواب كان صادما لطلبة الإعلام، "بين أسوار الجامعات ندرس الإعلام ومختلف فنونه وأجناسه وأشكاله، وأطروحاته، لكن في الميدان هناك "ميزان لن يستقيم" كما وصفها الباحث في الدكتوراه خالد عمراني عن موضوع "السلطة والإعلام في الجزائر"، على حدّ تعبيره.
هذا الطرح يختلف عن أطروحات أخرى، غير أن رئيس نقابة ناشري الإعلام في الجزائر، رياض هويلي طالب بوضع أطر قانونية واقتصادية واضحة المعالم لممارسة المهنة، لافتا في إفادته أنه بعد توضيح هذه الأطر من حقّ القارئ أن يختار ما يقرأ وما يطلع وما يشاهد على حدّ تعبيره.
وتأسيسًا على ذلك، لفت هويلي إلى أنّ "ممارسة المهنة باحترافية ووفق أصولها لا يعني أبدًا الخواء الإيديولوجي أو المصلحي أو الحزبي".
وعلى خلاف ذلك، تطرح بعض الأصوات في الجزائر قضية حرّية الإعلام مجددًا، وهي التي لم تعد جارية في النّقاش اليومي في فضاءات الوسائل الإعلامية والمحامل الإلكترونية والورقية، إذ يبدو أنها باتت "مخيفة" رغم أنها حسب الباحث الأكاديمي فريد إسطمبولي من جامعة قسنطينة قضية مجتمع، لافتًا في تصريح لـ "الترا جزائر" إلى أنّ المحافظة على المكاسب المهنية التي حصل عليها المهنيون منذ ثلاثون سنة هي قضية المهنيين بحدّ ذاتهم، وليس السلطة فقط".
وأضاف قائلًا إن "الحرية الإعلامية، هي خيط ناظم لحريات أخرى في المجتمع، ولا ديمقراطية دون حرية" حسب إفادته.
الصحافة والفراغ
رأي آخر، يوجّه سهام "المرض الذي أصاب الإعلام" إلى المهنيين، الذين " تخلوا عن مسؤولياتهم في المهنة، وهو ما تفيده بعض الأقلام الإعلامية، بعد إصابتهم بـحالة إحباط مزمن"، إذ أن معاينة الواقع الإعلامي والقطاع يعرّي بعض الأمراض الاجتماعية والاقتصادية التي أصابت المهنيين، فحالة التخلّي كما ذكر الإعلامي علي منصوري في إفادته لـ"الترا جزائر" سببها:" المراهنة على حصان خاسر" ممن فتحوا مؤسسات إعلامية، ثم أصابهم الكساد، بسبب نقص الإشهارّ.
في مقابل ذلك: "هناك طائفة من المؤسّسات من جعلت من الإعلام صفحات إشهارية، لكن لا علاقة لها بالمهنة"، وهو واقع لا يمكن غضّ الطرف عنه أو إنكاره.
وحريّ بنا أن نتطرق أيضًا إلى الإرادة السياسية في تنظيم القطاع، وهو شأن يتعلق بوضع أسس يمكن من خلالها تسيير القطاع وترتيب بيت "السلطة الرابعة"، خصوصًا في وجود سلطةالوسائط الاجتماعية التي يمكن أن تحدث طفرة إعلامية خطيرة الأبعاد.
الظاهر أن توفّر الإرادة السياسية، يُسهِم في صناعة رأي عام يتميّز بالاختلاف والرّؤى المتعدّدة وزوايا التعاطي مع الأحداث
الظاهر أن توفّر الإرادة السياسية، يُسهِم في صناعة رأي عام يتميّز بالاختلاف والرّؤى المتعدّدة وزوايا التعاطي مع الأحداث، والنقاشات المفتوحة، ودون ذلك فنحن أمام صناعة رأي عام لا يخرج عن رؤية السلطة: وهذا ما يجعل الرؤية غير واضحة ناهيك عن شلل يصيب الأقلام والأصوات ويبكم الأفواه.
اقرأ/ي أيضًا:
مخاوف من الإعلام الإلكتروني في الجزائر