19-يوليو-2019

الجزائريون في المسيرات يعبّرون عن رفضهم لنفوذ باريس في الجزائر (رياض كرامدي/ أ.ف.ب)

لم يدم صمت فرنسا طويلًا، بشأن الدعوات الشعبية والرسمية في الجزائر لاستبدال التدريس باللغة الفرنسية في عدّة تخصّصات جامعية، فقد أعلنت هذا الأسبوع على لسان سفيرها كزافییه درينكورت، أنها لا تريد خسارة مكانة لغتها في الجزائر لصالح أيّة لغة أخرى.

باريس تحرّكت بعد استفتاء حول استبدال الفرنسية بالإنكليزية كـ لغة للبحث والتدريس في الجامعات أطلقتها وزارة التعليم العالي

منذ إعلان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، عن استفتاء حول استبدال الفرنسية بالإنكليزية كلغة للبحث والتدريس في الجامعات، تفاعل جزائريون بشكل واسع مع الخبر، وأبدى كثير منهم تأييده لهذا القرار، رغم دفاع البعض على بقاء لغة لوميير بحجّة الحفاظ على "غنيمة الحرب" كما وصفها الكاتب الراحل كاتب ياسين.

اقرأ/ي أيضًا: الخريطة اللغوية في الجزائر

ردّة فعل باريس

كعادتها، تختار فرنسا التوقيت المناسب للتعبير عن الملفّات المرتبطة بالجزائر، ففي احتفال نظمته السفارة الفرنسية بمناسبة العيد الوطني الفرنسي، أكّد درينكورت أن باريس حريصة على الحفاظ على متانة علاقتها مع الجزائر وعلى مكانة اللغة الفرنسية، بغض النظر عن وضع مستعمرتها السابقة.

وقال درينكورت: "نريد الحفاظ على علاقات البلدين، خاصّة في المجال التربوي، والذي يلخّصه التعاون المطلق بین المعاھد الفرنسیة والجزائرية، التبادلات بین الجامعات، وتدريس اللغة الفرنسیة، نعمل جمیعًا ھنا لتطوير ھذا الإرث الذي ورثناه".

وحافظت اللغة الفرنسية لسنوات طويلة على مكانتها كلغة أجنبية أولى في النظام التعليمي الجزائري، وازداد استخدامها مع إصلاحات منظومة التربية التي أقرّها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ضمن ما يسمّى إصلاحات لجنة بن زاغو نسبة إلى علي بن زاغو رئيس جامعة باب الزوار الذي ترأّس اللجنة آنذاك.

وأوصت لجنة بن زاغو التي كان أغلب أعضائها ممن تصفهم الصحافة الجزائرية بـ"التغريبيين"، مثل الوزيرتين السابقتين للثقافة والتربية خليدة تومي ونورية بن غبريت، باستبدال الرموز الرياضية العربية في مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم بالرموز اللاتينية، مع رفع الحجم الساعي للغة الفرنسية، بتدريسها ابتداءً من السنة الثالثة ابتدائي بدل السنة الرابعة كما كان مقرّرًا في النظام التربوي الأساسي.

وطيلة حكم بوتفليقة كانت باريس مطمئنة لحفاظ الفرنسية على مكانتها التفضيلية في النظام التربوي والإداري الجزائري، بمشاركة مستمرّة لـ خبراء فرنسيين في الإصلاحات التي كانت تقودها وزيرة التربية السابقة نورية بن غبريت ضمن ما يعرف بإصلاحات الجيل الثاني، حسب شهادة المدير الفرعي السابق المكلّف بالتعاون والعلاقات الدولية بوزارة التربية الوطنية حمزة بلحاج.

وأكدّت هذه المعلومة -التي نفتها بن غبريت- وزيرة التربية الفرنسية السابقة نجاة فالو بلقاسم خلال لقاء جمعهما بالجزائر في إبريل 2016.

تقول وزارة الخارجية الفرنسية على موقعها الإلكتروني، إن تعليم اللغة الفرنسية والتعليم باللغة الفرنسية في  الجزائر يندرج "في صميم نشاطنا، إذ تقدّم فرنسا الدعم لتحسين التعليم الأساسي والتعليم المستمرّ لمدرّسي اللغة الفرنسية سواءً في المدارس الثانوية أو في التعليم العالي، وتدعم طلاب الدكتوراه في اللغة الفرنسية، كما تدعم إقامة مراكز للبرامج المكثفة لتعليم اللغات في 35 جامعة في الجزائر".

إجهاض مشروع

تخلّي الجزائر عن اعتماد الفرنسية لغة بحث في الجامعات، مثل ما دعا إليه وزير التعليم العالي، لا يتوقّف عند خسارة باريس أحد مظاهر نفوذها في مستعمرتها السابقة فقط، بل إنه سيمثل ضربة قاصمة لمشروع الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، الذي راهن على إعادة بعث الفرنسية في الدول الإفريقية، وضخ نفس جديد في منظمّة الفرانكفونية.

في ديسمبر/ كانون الأوّل 2017، طلب ماكرون من الأفارقة خلال جولة قادته إلى عدد من دول القارة السمراء، المساهمة في الاستثمار في العلاقات التاريخية بين الطرفين، وفي مقدّمتها لسان بلاده الذي قال بشأنه إن "اللغة الفرنسية الأكاديمية أصبحت جامدة وأدعو الدول الأفريقية يأن تساهم  في تطويرها بإدخال كلمات يختارونها هم".

وأضاف ماكرون وقتها أن  الواقع يتطلّب التخلّي عن الفرنسية الكلاسيكية وإثرائها باللغة البسيطة التي يستعملها الممثّلون والفنانون والموسيقيون في أفلامهم وموسيقاهم، كما فتح ماكرون ورشة إعادة النظر في المنظمة العالمية للفرانكفونية بشكل يجعلها أكثر فعالية.

سعت فرنسا ماكرون، أو حتى في عهد سلفيه فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي إلى جعل الجزائر تنظمّ إلى منظمة الفرانكفونية، لكن ذلك لم يتحقّق رغم العلاقة التي تطوّرت بين البلدين في عهد بوتفليقة الذي حضر بعض قمم منظمة الفرانكفونية في عهد ساركوزي.

استبدال اللغة الفرنسية بالإنكليزية، ليست ظاهرة متعلّقة بدول نفوذ باريس فقط، ولكنّها تهدّد الفرنسية في عقر دارها أيضًا، إلى جانب باقي الدول التي استسلمت للغزو اللغوي الفرانكفوني، ففي جوان/ حزيران الماضي، وجّه 100 فنان ومدرّس وعالم من 25 دولة نداءً لماكرون لـ"حماية اللغة الفرنسية من الاستعمار الأنغلو-أميركي"، على حدّ قولهم.

وجاء في النداء ذاته، أن "اللغة الفرنسية في وضع سيئ، وهي تختنق بفعل اللغة الأنغلو-أميركية، ويشهد استخدامها تراجعًا بسبب هذه اللغة التي باتت مألوفة أكثر".

ومن انتفاضة السفير الفرنسي، يبدو أن كلمة الحفاظ على لغة بلادها التي استعملها تعني "الحماية" التي يجب أن يقوم بها ماكرون بكل الطرق في الجزائر، حسب مطلقي النداء.

نتائج ساحقة

يبدو أن التعليق الفرنسي على نيّة السلطة الجزائرية الحالية في التوجّه نحو اعتماد الإنكليزية لغة للبحث، جاء بسبب نتائج التأييد الواسع لهذه الخطوة من قبل أغلبية الجزائريين، فقد كشف وزير التعليم العالي والبحث العلمي الطيب بوزيد أن نتائج الاستفتاء الذي أطلقته وزارته بشأن تعزيز استعمال الإنكليزية في البحث العلمي على حساب الفرنسية قد لقي تأييدًا تعدى 94 بالمائة إلى غاية الأربعاء الماضي.

وكان بوزيد، قد أعلن قبل أكثر من ثلاثة أسابيع، إطلاق استطلاع لآراء الأسرة الجامعية من طلبة وأساتذة جامعيين بخصوص تعزيز استعمال اللغة الإنكليزية في مجال التعليم العالي والبحث العلمي.

وقبل انتهاء فترة التصويت التي حدّدتها وزارة التعليم العالي، بادر وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي تيجاني حسان هدام هو الآخر بالإعلان عن بخوض هذه التجربة بعد أن أعلن "الشروع  في التكوين باللغة الإنكليزية بالمدرسة العليا للضمان الاجتماعي الموسم المقبل، كتجربة أولى لتمكين البلدان الإفريقية، سيما تلك الناطقة بالإنكليزية الاستفادة من خدمات هذه المدرسة العليا".

الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون يطمح إلى رفع عدد مستخدمي اللغة الفرنسية في الدول الأفريقية

ومهما كانت النتائج النهائية لهذا الاستفتاء، فإن تطبيقه يبدو أنه يتعدّى التخلّي عن لغة صارت تحتل المرتبة التاسعة عالميًا من حيث الاستعمال إلى أبعاد سياسية، خاصّة مع تصعيد التيارات الرافضة للنفوذ الفرنسي في الجزائر بقوّة، وهو ما قد يفسّر عودة مقترح تجريم الاستعمار الذي أجهضه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، حفاظًا على علاقاته ومصالحه مع الطرف الفرنسي، الذي يبدو أن طموح رئيسه ماكرون إلى رفع مستخدمي اللغة الفرنسية كليًا أو جزئيًا من 274 مليون حاليًا إلى 700 مليون في سنة 2050 قد يصبح غير قابل للتحقيق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اللغة الفرنسية.. تقسم الجزائريين من جديد

معلمة جزائرية تثير جدلًا بسبب اللغة العربية