يشكّل الفضاء اللغوي في الجزائر تنوعًا وتعددًا سوسيولسانيًا، بين الازدواجية والثلاثية اللغوية: الأمازيغية والعربية والفرنسية. وبحسب الدستور الجزائري فالأمازيغية والعربية لغتان وطنيتان رسميتان. أمّا واقعيًا فتحتل اللغة الفرنسية مكانةً في الفضاء المجتمعي، وتُستخدم في قطاع الإدارة العمومية والخاصة، ولديها وجود في الوسط الإعلامي والثقافي.
تحتل اللغة الفرنسية مكانةً في المجال الجزائري العام، وتُستخدم في قطاعات الإدارة والإعلام
فما هي تلك الفضاءات التي تحتلها اللغة الفرنسية ولماذا؟ كيف استطاعت الفرنسية أن تحصد لها جمهورًا رغم سياسة التعريب والنصوص القانونية التي تلزم استخدام اللغة العربية في الخطابات الرسمية؟
اقرأ/ي أيضًا: حوار| سمير بلكفيف: الحراك الجزائري خلق فرصة لاستعمال العقل السياسي بشجاعة
لغة فرنسية رسمية رغم أنف الدستور
تنص المادة 3 من الدستور أن اللّغة العربيّة هي اللّغة الوطنيّة والرّسميّة، وهي تظل اللّغة الرسمية للدولة، إلا أن الممارسة الخطابية لغالبية الوزراء هي اللغة الفرنسية في مخاطبة الإعلام وإدارة الأشغال والندوات، وفي عقد اجتماعات مجالس الوزراء، ويتم استعمالها أيضًا في إدارة العمل. بل إنّ الجريدة الرسمية في نسختها الأصلية تعتمد على النسخة الفرنسية وليس العربية، كون النسخة العربية هي ترجمة نصية عن النسخة الفرنسية، وبالتالي، فإنه على الصعيد السياسي والسلطوي هناك ازدواجية في الخطاب، بين ما هو استهلاكي الممثل في التشجيع على التعريب، وبين ما هو عملي وواقعي حيث تهيمن اللغة الفرنسية في الأوساط الحكومية والنظامية.
البعد الجغرافي والتاريخي
لأسباب تاريخية مرتبطة بالفترة الاستعمارية، تنتشر الفرنسية بشكل ملحوظ نسبيًا في بعض المناطق الكبرى والمتوسطة كمدن تلمسان ووهران في الغرب، وتيزي وزو وبجاية والعاصمة في الوسط، ومدينة قسنطينة وعنابة في الشرق وبشار وعين الصفراء في الجنوب الجزائري. هذا التوزيع الجغرافي اللغوي يعود إلى تواجد القوى الإدارية الكولونيالية في تلك المناطق، بالنظر إلى مكانتها الاستراتيجية في التوسع الاستيطاني وإدخال بعض المدارس التعليمية الفرنسية في وسط الأهالي، كما شكّل الدور الفعال للبعثات التبشيرية في غرس الفرنسية في بعض الأوساط الشعبية، حيث عملت تلك العوامل على استقطاب أبناء تلك الأوساط حيث تمكنوا من اكتساب اللغة الفرنسية وزاولوا دراساتهم بالفرنسية.
العلاقات المهنية في الأوساط المالية
في هذا المجال يلاحظ أيضًا طغيان الفرنسية، فهي اللغة الأكثر استخدامًا في العمل، وقد قاوم هذا الفضاء كل محاولة إدخال العربية، على الرغم من وجود المُعرّبين أو ذوي التكوين المزدوج.
الفضاء الأسري
لايزال التواصل في بعض الأوساط الأسرية والعائلات يستخدم الفرنسية في التفاعل فيما بينهم، وقد يكون هذا راجع إلى كون الأم تحمل الجنسية الفرنسية، فوجود جالية جزائرية كبيرة على مستوى القطر الفرنسي سمح بالمصاهرة والعلاقات الزوجية.
العلاقات الاجتماعية أو الفضاء العام
تتوزّع اللغات العربية والفرنسية وحتى الأمازيغية على الفضاء العمومي، بل وقد تتداخل العناصر الثلاث في جلسة واحدة ولا طغيان للفرنسية في المجال العام إلا في حدود ضيقة.
لأسباب تاريخية مرتبطة بالفترة الاستعمارية، تنتشر الفرنسية بشكل ملحوظ نسبيًا في بعض المناطق الكبرى والمتوسطة
النخبة المُفرّنسة
تستخدم الفرنسية في أوساط النخبة الفرنكوفونية المرتبطة بالنموذج الثقافي الفرنسي، حيث تستمد مرجعتيها الفكرية والحياتية من العالم الباريسي على الرغم من التباعد الجغرافي والمكاني، وترى أن أحسن وسيلة للعيش فرنسيًا هي التواصل بالفرنسية، فهي لغة التنوير والحداثة، لغة متفحة، لغة العلم والتكنولوجية، والعيش في هذا الوهم الخيالي يترجم عبر استخدام الفرنسية كحالة نفسانية.
اقرأ/ي أيضًا: اللغة الفرنسية.. تقسم الجزائريين من جديد
في الأخير، أدّى الصراع الأيديولوجي إلى تراجع أو إخفاق سياسة التعريب، فالمنهجية الشعبوية المؤدلجة لم تعمل على تقوية اللسان العربي في الأوساط المجتمعية، بل عملت على تهجينه، لكن هذا لم يمنع من بروز نخبة معربة في الوسط الأدبي والإعلامي ارتقت باللغة العربية شكلًا ومضمونًا استقطب حتى النخبة المفرنسة.
اقرأ/ي أيضًا: