20-فبراير-2020

جامعة محمد بوضياف بولاية المسيلة (الصورة: جامعة المسيلة)

قبل أن يقرّر مغادرة الجامعة والهجرة إلى الخارج خلال سنة 1994، نشر الباحث الجزائري إلياس ميري كتابًا بعنوان "هل يجب غلق الجامعة؟"

أعلن الأستاذ جمال بلقاسم من جامعة جيجل مؤخرًا، عن استقالته من التدريس في الجامعة

أثار هذا الكتاب اهتمامًا كبيرًا في ذلك الوقت وسط العائلة الجامعية، وأشعَلَ الإصدار بسبب عنوانه المستفزّ نقاشات متباينة، تناولت تعثّر برامج الإصلاح السابقة وإخفاقات الجامعة، حيث دار الحديث حول القطاع الجامعي وعلاقته بالسياسة والمجتمع، وانقطاع مؤسّسات التعليم العالي عن المحيط المعرفي والثقافي.

اقرأ/ي أيضًا: الأكاديمي ناصر جابي في بيان استقالته: الجامعة الجزائرية في خطر!

في هذا السياق، أعلن الأستاذ جمال بلقاسم من جامعة جيجل مؤخرًا، عن استقالته من التدريس في الجامعة، وقال على صفحته بموقع التواصل فيسبوك، في منشور أرفقه بصورة ورقة الاستقالة: "أقدم اليوم استقالتي من الجامعة"، واصفًا إياها بـ "اللعبة المفضلة للحماقات"، وأرجع سبب ذلك إلى أن الجامعة لم تعد قادرة على تلبية حاجياته المعرفية والإنسانية.

أثار إعلان استقالة جمال بلقاسم، ومن قبله الأستاذ ناصر جابي من التعليم في الجامعة، عودة الأسئلة القديمة والجديدة، حول وضع الجامعة اليوم وآفاقها المستقبلية، وعن العلاقة بين الجامعة والمجتمع، ووضعية الأستاذ الجامعي، وأهمّ المشاكل التي تعانيها الجامعات الجزائرية اليوم.

تصنيف الجامعة الجزائرية

بعيدًا عن التصنيفات العالمية المتوفّرة بأعداد كبيرة ومتنوّعة، نجد أن المعايير المتّفق عليها، والتي تحدّد مكانة الجامعة المتميّزة، تتمثّل في جودة التعليم والبحوث العلمية، إضافة إلى نسبة المشاركة الدولية، وأخيرًا قدرة الجامعات على الإسهام في التطوّر الصناعي، والمساهمة في صناعة الأنتلجنسيا الوطنية.

وإذ ما وضعنا بكل موضوعية هذه المعايير، لتحديد نوعية الجامعات الجزائرية، فالمؤكّد أن مؤسّسات التعليم العالي في الجزائر تفتقد إلى تلك المواصفات العالمية، حيث تشير التقارير العالمية دائمًا إلى تذّيل الجامعة الجزائرية الترتيب العالمي، إذ لم يتجاوز ترتيب أوّل جامعة جزائرية في التقرير السنوي لمجلة تايمز للتعليم، الصادر العام الماضي، والذي شمل 1396 جامعة من بين 92 دولة حول العالم، الفئة السابعة التي تضمّ ترتيب الجامعات من 601 إلى 800.

مجانية التعليم

من جهتهم، يرى بعض الباحثين أن دمقرطة التعليم العالي قد سمحت بتطوّر كبير لحجم الهياكل الجامعية، لتسيير أعداد كبيرة من الطلبة، وإدارة مرافق ومراكز جامعية هائلة، وباتت الحكومات المتعاقبة تستعرض أرقام الإحصائيات في كلّ مرّة تُنتقد فيها الجامعة الجزائرية.

هذه الوضعية، نجمت عنها أضرارٌ كبيرة حول جودة التعليم والقيمة المضافة لمؤسّسات التعليم العالي، وأنتجت حالة من التسيّب وعدم الانضباط في صفوف الطلبة الجامعيين.

مشكلة الاكتظاظ لم تسمح بالتأطير البيداغوجي الجيّد، ولم يواكب عدد الطلبة المتزايد، الاستثمار في البنية التحتيّة بشكل عقلاني، ولا توفير التجهيزات الأساسية لها، كما أن مجّانية التعليم العالي في تصوّر بعض المتابعين، لا تعني بالضرورة تكافؤ الفرص الاجتماعية، بعدما تحوّلت الجامعة العمومية إلى جهاز بيروقراطي، يدير أغلفة مالية معتبرة، وبداخلها شبكات من المحسوبيات والبزنسة.

الجدير بالذكر أن الحظيرة الوطنية للمؤسّسات الجامعية تضمّ مائة وستة مؤسّسة للتعليم العالي، من بينها خمسون جامعة، ثلاثة عشر مركزًا جامعيًا، عشرون مدرسة وطنية عليا، عشرة مدارس عليا، وإحدى عشر مدرسة عليا للأساتذة، وإضافة إلى مُلحقيْن جامعيين. ويقدر عدد الطلبة الجزائريين لموسم 2018-2019 حوالي 1.7 مليون طالب جامعي.

المحسوبية والانتهازية

في هذا السياق، يقول الأستاذ والكاتب نور الدين قدور من جامعة وهران، واصفًا الجامعة: "العلبة المفضّلة للحمقى، لا تختلف كثيرًا عن العُلب المظلمة للحقوق الاقتصادية والقانونية لمختلف قطاعات الدولة".

وذكر محدثنا، أن المصاعب الإدارية وراء إعاقة المهام المنوطة بالجامعة لتحقيق كفاءات نخبوية، بداية من "الإهمال الأخلاقي" بالوضعية المعيشية والاجتماعية، لتنتهي إلى "ترقيات موسمية تنتج لنا عقولًا انتهازية"، محملّا الإدارة مسؤولية انتهاك الحصانة المعرفية، واستشراء المحسوبية والمخابر الريعية، على حدّ قوله.

وأضاف المتحدّث أن الجامعة الجزائرية كغيرها من مؤسّسات الدولة، تعيش حالات نكوص تنموي، وهي ضحية التعتيم الممنهج على السلوكيات الانتهازية، المستخدمة من طرف إدارة انحازت للكوطات السياسية قبل التعليمية، على حدّ تعبيره.

ودعا الأستاذ، إلى تحرير الجامعة من التجاذبات السياسية والمصالح النقابية الذاتية، فجامعاتنا اليوم كما قال: "في مفترق طرق، مع ما تأمله من حكومة تعيد إليها اعتبارها الأكاديمي، أو تبقيها رهينة منظومة إدارية/نقابية مرتبطة بمكتسباتها السياسية".

الأزمة أعمق

من جهته، يرى الباحث أحمد دلباني، أن مشكل الجامعة يكمن في عدم استقلاليتها الفكرية والسياسية، وعدم قدرتها على أن تتحوّل إلى مراكز لإنتاج المعرفة والنخب.

وأضاف أن الجامعة خاضعة كلية للوصاية السياسية الرديئة، وتتحكّم في مفاصلها ثقافة الولاء، فضلًا عن عزلتها عن العالم والحراك المعرفي.

وأفاد محدثنا أن الجامعة لم تنجح - بفعل عوامل كثيرة - في أن تكون بؤرة معرفية من خلال آلية التكوين والبحث وإنتاج الوعي.

يستطرد دلباني، أن الجامعة تعيش قطيعة مع الواقع السوسيو- اقتصادي، كون الجامعة تعيش على هامش إيقاع العصر والتحولات الكبرى.

متسائلًا "كيف تحوّلت هذه المؤسسة إلى مصنع لتفريخ أنصاف المتعلمين والبطالين لا غير؟ لماذا لم نعد نسمع إلا عن الفشل والرداءة، وشيوع ثقافة المحسوبية والفساد والسرقات العلمية، وضعف المستوى البيداغوجي؟"

يواصل الباحث وصفه للجامعة الجزائرية، والقضايا الفساد التي ارتبطت بها فيقول: "إن الرداءة المتفشية في الجامعة لا ترتبط بهذه المؤسسة فحسب، وإنما هي وجه من وجوه ثقافة تضرب بعمق في جذور الوعي الجمعي، الذي لم تنجح السياسات المتعاقبة في تغييره نحو الانفصال عن ثقافة الولاء الأعمى".

وشدد المتحدّث على أن الجامعة مؤسّسة تمثل الثقافة في صورتها النقدية العالمة الحاضنة لقيم الحرية والبحث المستقل، ويخلص دلباني، إلى ما ذهب إليه المرحوم جيلالي اليابس عندما قال: "لم تنجح الجامعة في التأثير في الشارع، بل الذي حدث هو العكس تمامًا، إذ أصبحنا نلاحظ أن الجامعة تتراجع أمام ثقافة الشارع بكل مظاهره السلبية".

الأزمة الأمنية

من جهة أخرى، تعاني الجامعة الجزائرية من كتلة كبيرة من المشاكل على غرار العنف داخل الحرم الجامعي، والاعتداءات على الأساتذة، والوضع يزداد سوءًا مع مرور الوقت؛ فالتحوّلات المجتمعية ما بعد العشرية السوداء، ألقت انعكاساتها على المحيط الجامعي، وبدل أن تكون الجامعة قاطرة التغييرات المجتمعية، تحمّلت الآثار السلبية لكلّ التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلد، بحيث لم يكن بإمكان المجتمع الأكاديمي المساهمة في القراءة والتحليل والتأثير المجتمعي، فقد اسْتُهْدِفَت الأسرة الجامعية أمنيًا، وحُوصَرت سياسيًا طيلة عقدين من الزمن. 

لطالما كانت الأسرة الأكاديمية، ضحية تسيير الإدارة البيروقراطية وارتباطاتها السياسية والأيدولوجية والريعية، وهو ما ساهم في إفراغ المحتوى المعرفي والأكاديمي للجامعة.

السلطة لم تحسم بعدُ مسألة لغة التعليم الجامعي، والمسألة تأخذ يومًا بعد يوم أبعادًا أيديولوجية ضيّقة

ما عزّز هذا الطرح، هو أن السلطة لم تحسم بعدُ مسألة لغة التعليم الجامعي، فعوض أن يتمّ تناول المسألة من الناحية الأكاديمية والبرغماتية، تأخذ يومًا بعد يوم أبعادًا أيديولوجية ضيّقة، لها علاقات بالحسابات السياسيوية والانتخابية، والتموقعات والأقنعة الوهمية.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

النقاط السوداء في الجامعة الجزائرية

مسابقات التوظيف في الجامعة الجزائرية.. جدل حول نظامي الـ "أل.أم.دي" والكلاسيكي