02-أكتوبر-2019

مقهى في ساحة أودان بالعاصمة (نورالدين زبار/Getty)

لا نكاد نعثر على دراسة واثقة من نفسها عن تاريخ القهوة في الجزائر، مثل كثير من المشروبات والأطعمة، رغم أنّها مهيمنة على الأذواق والأمزجة والأمكنة. ويُمكن تبرير هذه النّدرة في التأريخ الغذائيّ جزائريًّا، إلى كون الفضاء الجزائريّ، أو المغرب الأوسط، بتعبير الجغرافيا السّياسيّة القديمة، ظلّ محطّة عبورٍ إلى أطرافه، التّي ساعدتها ظروفها المختلفة على أن تكون مستقرّة، مثل المغرب غربًا وتونس شرقًا ودول السّاحل جنوبًا، حتّى أنّ بعض الأطعمة والأشربة ذات الأصل الجزائريّ نُسب إليه.

 انزاح الاستعمال الدّلاليّ للقهوة إلى حقول أخرى، منها أنّها أصبحت تعني الرّشوة في الجزائر

لا تزال هذه الحقيقة سارية المفعول إلى غاية اليوم. إذ نجد كثيرين في العالم يعتقدون أن الكسكسيّ، مثلًا، والشّاي الأخضر وأنواعًا من التّمور، إمّا من المغرب أو تونس ولا علاقة للجزائر بها إلا من باب الاستهلاك أو التّقليد. وساهم الإهمال الجزائريّ في تسويق مكوّنات الثقافة الوطنيّة، والزّهد في إنعاش القطاع السّياحيّ، في تكريس هذا الواقع.

اقرأ/ي أيضًا: بالصور | المقاهي تعيد الحياة للمدن الجزائرية في ليالي رمضان

يقول جوناثان كورييل في كتابه "هذه الأميركا" السّاعي إلى تأصيل العادات والطّقوس الأمريكيّة، إنّ القهوة دخلت إلى شمال أفريقيا عن طريق العثمانيين، الذّين كانوا يهيمنون عليه، على مدار ثلاثة قرون، إلى غاية مدينة تلمسان غربًا، حيث لم يدخلوا التّراب المغربيّ بحدوده الحالية. وقد وصلت القهوة إلى الأتراك عن طريق مصر، التّي كانت ولاية عثمانيّة، والتي عرفت القهوة، من خلال الطلبة اليمنيّين الوافدين إلى جامع الأزهر.

ويذكر الكتاب أنّ ثمّة رافدًا آخر لدخول القهوة إلى شمال أفريقيا، هو الضفّة الشّماليّة للمتوسّط، في تعاملها المباشر مع الضفّة الجنوبيّة منه، بعد أن رفع بابا الفاتيكان الحظر عن شرب القهوة، في أوائل القرن السّابع عشر.

إحدى مقاهي الجزائر العاصمة (1910)

يحمل المحلّ الذّي تُشرب فيه القهوة اسمَها نفسَه، في قاموس الجزائريّين. فيقال: نلتقي في "القهوة" أو أنا ذاهب إلى "القهوة". ولا تحضر كلمة "كافيتيريا" إلّا على ألسنة نخبة معيّنة من الشّباب، مع وجوب أن يكون المكان ذا لمسة عصريّة، وقد لعبت المقاهي الشّعبيّة دورًا بارزًا في النّصف الأوّل من القرن العشرين، في بث الوعيّ الوطنيّ، والتّمهيد لثورة التّحرير. ففيها تأسّست فرق رياضيّة وفنّيّة وإصلاحيّة شكّلت روافد الحركة الوطنيّة، على اختلاف مشاربها.

وظلّ الإشعاع الثقافيّ للمقاهي متواصلًا، بعد الاستقلال الوطنيّ (1962)، فاشتهرت مقاهٍ معيّنة في مدن معيّنة باحتضانها للنّخب المختلفة، سواءً تلك المساندة لخطاب نظام هوّاري بومدين أو تلك المعارضة له، إلى أن طرأت عوامل موضوعيّة مختلفة، منها الانفتاح على اقتصاد السّوق، بمجيء الرّئيس الشّاذلي بن جديد عام 1979، بما مهّد لاستفحال الثقافة الاستهلاكيّة، بمفهومها المفرغ من المضامين الحضاريّة.

في هذه الفترة، انزاح الاستعمال الدّلاليّ للقهوة إلى حقول أخرى، منها أنّها أصبحت تعني الرّشوة، فيقال، إلى غاية اليوم، إنّ فلانًا طلب "قهوة" أو أعطى "قهوة". ويُرجع رئيس "الجمعيّة الجزائريّة للثقافة الشّعبيّة" توفيق ومان هذا الانزياح إلى أنّ فقراء البلاد، في المرحلة الاستعماريّة، كانوا يجلسون عند مداخل المقاهي، فيُؤدّون خدماتٍ معينة لأحدهم، مقابل أن يدفع عنهم ثمن قهوة.

ويضيف محدّث "ألترا جزائر": "كان الجهد المبذول من طرف الجزائريّ، يومها، من أجل الحصول على القهوة، يتفوّق أحيانًا على الجهد المبذول من أجل الحصول على الخبز". وهو الواقع الذّي يمكن أن نجده اليوم، يقول توفيق ومان، حيث نجد عبارة "ما عنديش قيمة قهوة" في صدارة عبارات الشّكوى الدالّة على الحاجة. علمًا أنّ كلمة القهوة، هنا، لا تعني البنّ بالضّرورة، فالجزائريّ يُسمّي كلّ مشروب يُباع في المقهى قهوة.

ذكرت صحيفة "الشّروق اليوميّ" أنّ الجزائريّين استهلكوا عام 2010 من القهوة ما يكفي لتحضر 2.5 مليار لتر، ويكلّف فاتورة استيراد مقدّرة بـ211 مليون دولار، ذلك أنّ الجزائر ليست دولة منتجة للقهوة. ويشربونها صافية أو بالحليب على الطّريقة الفرنسيّة. ومعصورةً بالعصّارات الحديثة في المقاهي، عادةً ما يُفضلها الشّباب ثقيلة، وخفيفة في البيوت، لأنّها تُعدّ تقليديًّا. كما أن هناك مناطقَ تضيف لها موادّ أخرى مثل الفلفل الأسود أو القرفة أو الشّيح.

يقول العمّ محفوظ، (63 عامًا)، وهو إمام متقاعد، إنّ أسرته تتكوّن من مسنّين هو وزوجته وثلاثة أبناء مع زوجاتهم وسبعة أحفاد، "كلّنا نشرب القهوة ما عدا طفلين. ولا يمكن أن يخلو البيت منها، مع إمكانية خلوّه من السّميد". ويضيف في معرض حديثه عن قداسة القهوة لدى الجزائريّين: "إنّها مباركة إلى درجة أنّ البعض يسمّيها الشّاذليّة ويحلف بها، وإذا حلف بها صدّقه النّاس. وقد سمّيت بالشّاذليّة نسبةً إلى أتباع الطّريقة الصّوفيّة الشّاذلية اليمنيين، الذّين نقلوها إلى مكّة المكرّمة، وساهموا في فتح أوّل مقهى فيها عام مطلع القرن السّادس عشر".

في السّياق، يقول محدّث "الترا جزائر" إنّ أسرته تفضّل أن تشتري القهوة في شكل حبيبات وتقوم بطحنها في البيت، "فشيّها فوق النّار، ورائحتها وهي تطحن، شطر من الاستمتاع بها".

يحيلنا هذا إلى الإشارة إلى انتشار شركات استيراد وبيع القهوة في الجزائر. بعضها متجذّر وبعضها طارئ، بما جعل 84 في المائة من العلامات المسجّلة، حسب "المنظمة الوطنية لحماية المستهلك ومحيطه"، عام 2018، غير مطابقة للمعايير المنصوص عليه في المرسوم التّنفيذيّ لشهر شباط/فيفري من عام 2017، الذّي يحدّد خصائص القهوة وشروط وطرق عرضها للاستهلاك.

ليست هذه المؤاخذة الوحيدة على شركات القهوة في الجزائر، بل إنّ قطاعًا واسعًا من الجزائريّين يسخرون، في الواقع والمواقع، من الإشهارات التّلفزيونيّة المخصّصة للقهوة. يقول الممثل محمدّ عبلول لـ"ألترا جزائر": "إنّها إشهارات تفتقد للذّوق والذّكاء، وابتكار طرق جديدة في عرض المنتوج، والاستعانة بوجوه هاوية أو مكرّسة لكنّها مبتذلة، بما يخلق حالة من نفور المشاهد"، يختم: "إنّها إشهارات رديئة لمشروب جميل".

رغم هذه السّلطة التّي تملكها القهوة في الجزائر، إلا أنّنا لا نكاد نعثر على تظاهرة احتفائية واحدة

ورغم هذه السّلطة التّي تملكها القهوة في الجزائر، إلا أنّنا لا نكاد نعثر على تظاهرة احتفائية واحدة، تندرج ضمن اليوم العالميّ للقهوة، الذّي اختارت له "المنظمة العالميّة للقهوة" يوم الفاتح من شهر تشرين الأوّل/أكتوبر، منذ عام 2015. فهل هو انسجام مع الشّعار الشّعبيّ الجزائريّ: "اشرب واهرب"؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقاهٍ جزائرية.. تثور على ثقافة "اشرب واهرب"

ليالي المدن الجزائرية في رمضان.. الحياة مجددًا