تحتفظ ذاكرة الجزائريين في الشمال بعادة هجرة الجنوبيين إليهم مباشرة بعد موسم الحصاد للاستفادة من الكلأ والماء والهواء العليل. وقد نشأت عن هذه الهجرات السنوية علاقات ومصالح ومصاهرات بين الأفراد والقبائل ساهمت في اختلاط الأنساب والعادات والتقاليد. وتعد قصيدة "حيزية" التي كتبها الشاعر الشعبي بن قيطون في القرن التاسع عشر واحدة من النصوص التي أرخت لهذا المعطى.
يعرف الصيف هجرة سياحية من الجنوب إلى الشمال الجزائري الذي يمتد على شريط ساحلي بـ1500 كلم، وهو ما وطد العلاقات رغم اختلاف العادات
في الوقت الراهن، تكاد تلك الهجرات الرعوية تختفي، في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية، لتحل محلها هجرة سياحية يقوم بها الأفراد والأسر والأفواج الشبابية والطلابية الجنوبية إلى الشمال الجزائري الذي يمتد في 12 ولاية ساحلية بشريط ساحلي طوله 1500 كلم. فما أن ينتهي الموسم الدراسي وشهر رمضان حتى يصبح ممكنًا ملاحظة الوجوه السمراء في الفضاءات الشمالية، بما يعطي انطباعًا بأن موسم الاصطياف قد انطلق فعليًا.
في شاطئ قورصو، 50 كيلومترا إلى الشرق من الجزائر العاصمة، سمعنا مغتربًا جزائريًا قادمًا من فرنسا يقول: "لا فرق.. لا فرق.. كأنني في مارسيليا!". سألناه عن قصده، فقال إن "الشاطئ هناك يستقبل جزائريين بيضًا وأفارقة سمرًا، بما جعلني أحس بأنني لم أغادره". يضيف: "الفرق فقط في أن الأفريقيات هناك أكثر تحررًا في لباس البحر من الجنوبيات الجزائريات هنا".
اقرأ/ي أيضًا: من جنوب الجزائر إلى شماله.. سفر في أحضان المرض
لم يكن متاحًا لـ"الترا صوت" أن يرصد طبيعة الولايات الجنوبية المتواجدة في الشواطئ التي زارها، من خلال ترقيم السيارات، ذلك أن معظم المواطنين القادمين منها يستعملون الطائرات أو الحافلات. " لا يمكن استعمال السيارة في رحلة مثل هذه لبعد المسافة وحرارة الصيف، إذ قد تصل المسافة إلى 3000 كيلومتر، لذلك نفضل الطائرة"، تقول السيدة نعيمة بشري، وهي مديرة مدرسة ابتدائية في مدينة تندوف القريبة من الحدود الموريتانية في الجنوب الغربي.
تقول المربية الجزائرية إن "المركبة حين تخرج من مدينتها، قد تبقى 800 كيلومتر من غير أن تجد منطقة عمرانية واحدة، وهذا يجعل من السفر برًا إلى البحر مدعاة للخوف، خاصة أن هذه الرحلات الاستجمامية يشارك فيها الأطفال والنساء". سألناها عن تكاليف الرحلة، فقالت إنها "مرتفعة جدًا"، "لكننا نفضل أن ننفق المال على البقاء تحت رحمة الشمس والغبار. هل تدرك ما معنى العيش في درجة حرارة تبلغ الخمسين؟".
في السياق نفسه، يقول الممثل فؤاد ميغي إن رغبة المواطن الجنوبي في الهروب من الحرارة إلى هواء البحر في الشمال خلق لديه حس توفير المال على مدار العام من أجل رحلته السنوية هذه، "كل أفراد الأسرة أو شلة الأصدقاء يحرصون على التوفير رغم الإكراهات المادية ليضمنوا قضاء شهر على الأقل في إحدى المدن الساحلية، وهو سلوك لا نجده عند مواطني الشمال، لكننا نجده في الدول الغربية".
ويشير فؤاد ميغي إلى أن نسبة الأسر الثرية في المناطق التي يتوفر فيها النخيل (المناطق الصحراوية) أكبر من نسبة الأسر ذات القدرات المالية المحدودة. "هذا النوع من الأسر الثرية عادة ما يملك بيوتًا في المدن الساحلية، يستغله خلال الصيف ويؤجره خلال الشهور الأخرى، وقد يكتفي بشطر من البيت خلال الصيف ويؤجر الشطر الباقي لتعويض تكاليف الرحلة"، يقول محدث "الترا صوت".
اقرأ/ي أيضًا: فقراء في الجنوب الجزائري الغني بالنفط!
يقول الشاب عماد القادم من مدينة جانت المحاذية للحدود الجنوبية الليبية إن الجنوبيين عادة ما يتجنبون الإقامة في الفنادق ويفضلون عليها الشقق والخيام العصرية المنصوبة في الشواطئ، "فهم لا يتخلون على عاداتهم واحتشامهم حتى أثناء مغادرتهم لمضاربهم، لذلك فهم يتحركون في شكل جماعات ويتقاسمون الطعام والسهرات والإقامة والخروج إلى البحر، من غير أن تكون لهم حساسية من الآخرين".
يرتبط الجنوب الجزائري في الأذهان بكونه خزانًا للنفط والتمور والمناخات السحرية التي تغري الغربيين لكن لا يزال غامضًا لأهالي الشمال
في شواطئ قورصو وبومرداس وتيبازة وبرج البحري، لاحظنا أن القادمين من الجنوب يتبادلون الحديث مع الجميع من غير أية عقدة ويفرضون احترامهم، ويقدمون هدايا وإكراميات لكل أسرة يتعرفون عليها. خاصة الشاي الذي يبدعون في إعداده. يقول محمد شاوشي، الذي يقدم عروضًا بهلوانية إن "هناك حكمًا مسبقاً لدى الشماليين بأن الجنوبيين متوجسون من الغرباء ومنغلقون على أنفسهم، بينما هم عكس ذلك تمامًا وينسفون هذا الحكم بمجرد التعامل معهم". يضيف شاوشي: "لقد منحتنا رحلاتهم خلال الصيف فرصة لأن ندرك كم أن الجزائر كبيرة ومتنوعة وثرية بطقوسها وعاداتها وملامحها الإنسانية والحضارية والثقافية والفنية. إنها قارة وليست دولة فقط".
صادف "الترا صوت" أفواجًا من الشباب القادمين من ولايات اليزي وبسكرة وأدرار وتمنراست والأغواط، في رحلات نظمتها مديريات السياحة والشباب والرياضة ونقابات مهنية وتربوية وجمعيات مدنية مثل "الكشافة الإسلامية الجزائرية". يقول عبد الناصر النقابي في شركة سونطراك البترولية إن "تنظيم رحلات بحرية تدوم أيامًا لأبناء عمال الشركة يدخل في صميم الخدمات الاجتماعية الخاصة بشركته". يسأل: "لماذا لا نشهد رحلات شمالية إلى الجنوب الصحراوي خلال موسم الشتاء؟ سيكون الأمر رائعًا ومقربًا بين أبناء الوطن". من جهته، أبدى الشاب نصير تثمينه تسخير مديريات التربية والتعليم للمدارس أثناء العطلة الصيفية للأفواج الكشفية القادمة من الجنوب، "هذا يوفر علينا تكاليف إضافية، ويوفر علينا عناء الإقامة في أماكن غير مريحة".
من المفارقات التي أثارت الانتباه في شاطئ مدينة بومرداس مهارة الطفلة دعاء في السباحة. وهي البعيدة عن البحر بـ1700 كيلومتر، بل إنها تعلم بنات المدينة الساحلية كيف يسبحن وكيف يتفادين مخاطر ذلك. سألناها عن مصدر مهارتها، فقالت إنها تتردد على المسبح البلدي في مدينتها، وهي تخطط لأن تصبح سباحة محترفة، "أ ليس رائعًا أن أتوج بألقاب وطنية وعالمية وأنا لست بنت البحر؟ تذكروا اسمي جيدًا، فأنا قادمة"، وهو ما أثار موجة من التصفيق والتشجيع.
هنا، أثار والد الطفلة دعاء مع "الترا صوت" موضوعًا وصفه بالمحزن، وهو أن الجنوب الجزائري يرتبط في الأذهان بكونه خزانًا للنفط والتمور الجيدة والمناخات السحرية التي تغري الغربيين. "في غفلة تامة عن معاناة متساكنيه مع البطالة والحرارة وقلة الفرص". يشرح الوضع أكثر: "إن الجنوب خزان للمواهب أيضًا في كل المجالات، لكن إمكانية ظهورها ضئيلة جدًا، والدليل أن الوجوه التي أتيح لها الظهور في الإعلام والسياسة والفن والرياضة تعد على أصابع اليد الواحدة". وكانت عبارته الأخيرة ذات دلالة:" مؤلم أن يكبر الطفل الموهوب في الجنوب الجزائري وهو يعتقد أنه لا يستطيع أن يفرض نفسه".
اقرأ/ي أيضًا:
الأودية والبحيرات.. بحر بديل في الجزائر؟
أطعمة الشواطئ المتجوّلة في الجزائر.. تسمّمْ بنقودك