عند انقضاء أيام شهر رمضان تتواصل مظاهر الاحتفال بهذا الضّيف وهو يفارقِنا إلى لقاء آخر بعد عام، إذ تحيي عديد الأسر الجزائرية عادة عيد الفطر بما يُوسم شعبيًا بعادة "حقّ المِلح" وهي عادة أندلسية عرفتها الجزائر منذ قرون على غرار مختلف دول شمال أفريقيا.
فور إكمال الرّجل لإفطار صباح العيد وبعد ارتشاف قهوته يضع خاتمًا من الذهب أو الفضة في الفنجان هدية لزوجته على خدماتها ورحابة نفسها خلال رمضان
هذه التسمية التصقت بالمودّة والرحمة بين الأزواج والأهل والأقارب خلال رمضان، حيث يُقبِل أرباب البيوت صبيحة عيد الفطر على مبادرة تدخِل الفرحة على قلوب ربّات البيوت تعرف في عديد الأوساط والمناطق الجزائرية بـ"حقّ الطعام"، فيما يطلق عليها سكان الشرق الجزائري "حقّ التكبيرة" أو "حق العِشرة".
عِرفان واستحقاق
تسميات مختلفة لكنّها تفيد بحقوق النِّساء على صبرهن خلال أيام شهر الصيام وتحمّلهن لمشقة الصوم وطيب عشرتهنّ بإعداد صُنوف المأكولات خِلال الشّهر الفضيل وإرضاء أذواق كلّ فرد من أفراد العائلة.
ومن بين الحقوق التي تستوجِب آداءها نحو النساء؛ هدايا يقدّمها الرجال لهنّ صبيحة العيد، وغالبًا ما يقدّمونها عقب صلاة العيد، ففور إكمال الرّجل لإفطار صباح العيد وبعد ارتشاف القهوة حول مائدة الحلويات، يقوم الرجل بوضع خاتم من الذهب أو الفضة في الفنجان كهدية لزوجته على خدماتها ورحابة نفسها خلال رمضان، بينما يفضّل البعض تقديم هدايا أخرى عرفانا بمجهودات النساء قبل العيد وقد تكون نقد.
تعتبر عادات الاحتفالات بعيد الفطر في الجزائر جزءًا مهمًا من الاحتفالات الاجتماعية ضمن الموروث الثقافي المحلي لمعظم المناطق الجزائرية، حسب تصريح أستاذة الأنثروبولوجيا فريدة لمطاعي من جامعة باتنة شرق الجزائر، لافتة إلى أن " حقّ التكبيرة" أو "حق الملح" هو عبارة عن تعظيم شأن النساء في شهر رمضان، وإعطاءهن حق التعب خلال شهر كامل.
وأضاف لمطاعي في تصريح لـ"الترا جزائر" أنّ هذه العادة نقلها الأندلسيون للجزائر كما هي معروفة أيضا بتداولها في البلدان المغاربية كتونس والمغرب وليبيا بتسميات متقاربة، مشيرة إلى أن بعض العائلات الجزائرية لازالت تحافظ عليها على هذه العادة، باعتبارها موروثا شعبيا من الزمن الماضي، ويثري الموروثات الثقافية في البلاد.
تميتن الأسرة
وكما سَبق ذكره، يطلق أيضا على هذه العادة تسمية أخرى: "حقّ العِشرة" وهي كلمة رمزية يقولها الرجل لزوجته، في إشارة منه لحسن العلاقة بعد مشقة شهر الصيام وصونها لبيتها ومطالب أفراد الأسرة كاملة، إذ يقدم لها هدية تختلف من مقدرة شخص لآخر.وحسب إمكانيات العائلات المادية.
من جانبها، تعتبر زهرة معافة ( 45سنة) من منطقة شرشال بولاية تيبازة، أن زوجها تعوّد على إهدائها هدايا بمناسبة عيد الفطر منذ أكثر من 17 سنة، وهي "عادة متميّزة باعتبارها تضفي على العلاقة الزوجية صلابة واستمرارية".
وقالت لـ"الترا جزائر" إن مثل هذه العادات تقوّي العلاقات وتزيد التّلاحم الأسري، إذ ورثها زوجها عن والده خصوصًا وأن المنطقة معروفة بالكثير من العادات التي لازالت العائلات تحافظ عليها في مختلف المناسبات وخاصة الدينية منها.
تقدير واحترام
في الشّرق الجزائري لا يقتصر "حقّ التكبيرة" على العيد فقط، بل هي عادة ورثها سكان ميلة وقسنطينة وباتنة وأم البواقي عن أجدادهم حيث تقدم الهدايا للزائر للبيت لأول مرّة، مثلما ذكرت كريمة حساني من منطقة سيدي مروان بولاية ميلة لـ"الترا جزائر" لافتة إلى أنه غالبًا ما يتمّ تأدية "حق التّكبيرة" لكبار العائلة في حفلات الزواج وأيضًا للضيف الذي يدخل أول مرة البيت، على أساس التعبير له على الامتنان والتقدير.
الكثير من الأسر تستحسِن مثل هذه العادات التي تضفي على العلاقات الإنسانية نوعًا من الصلابة التي تمكّن من سير بها الحياة اليومية، وتضفي عليها مشاهد متميزة يتم توريثها من جيل إلى جيل ولا تؤثّر على كيان الأسرة وروح العائلة.
ويعتقد الباحث في علم الاجتماع عبد الكريم ساحلي بأن طقوس الاحتفالات في عيد الفطر عمومًا تثبت تنوّع العادات والتقاليد في الجزائر، حيث تُحفَظ في الذّاكرة الجماعية للأفراد، إذ تتمظهر في أشكال متعدِّدة في مختلف الاحتفالات سواءً أكانت الدينية كعيد الفطر أو الاحتفالات في الأعراس وحفلات مولد الأطفال والختان.
عربون محبة
"حقّ الملح" عادة من العادات التي لازالت حية في بعض المدن الجزائرية، في ممارستها اعتقادًا بأنها عربون محبة تشكِّل ترابطًا أسريًا يحافظ على استمرارية العلاقات بين الأزواج.
ويرى البعض أهمية مثل هذه الممارسات أو العادات آيلة للزوال، خصوصًا في ظلّ المشاكل الاجتماعية التي يعرفها المجتمع الجزائري، ما أدّى إلى حالات التفكّك الأسري بسبب تعقيدات الحياة اليومية ومتطلباتها.
وفي هذا الصدد، يصف البعض عادة "حقّ الطعام" قوة أسرية ما يزيد من قوة المجتمع وصلابته إذ تعتبر الأخصائية النفسانية الموظّفة في مركز الشباب بمنطقة "بئر توتة" غرب العاصمة الجزائرية فهيمة بلعلى الزوجان هما ركيزة البيت وأيّة هدية يقدمها رب البيت لزوجته في صبيحة العيد عرفانًا وشكرًا تضفي مذاقًا حلوًا لاستمرار العيش والعلاقات عمومًا مثلما يفعل الملح والتوابل في الطعام".
وقالت في هذا الإطار لـ"الترا جزائر" إن هذه العادات هي ما يجمع الأفراد في بيئة واحدة ويزيد من تماسكهم، رغم أن المجتمع في تحول وطرأت عليه العديد من العادات الجديدة.
الوفاء في العلاقات الإنسانية
في الخلافات يَعرف الأصدقاء قيمة بعضهم ببعض، لكن في الجزائر عندما تريد إقناع إنسان بالتخلّي عن فْكرة ما خاصّة إن كان سلبية أو سيئة، يردّد على مسامعه "حقّ الملح" و"حق العشرة "، حيث ترمز الكلمتين إلى الوفاء ومراعاة ظروف الأطراف دوما باسم الملح الذي قاسموه في السّابق.
لكن رغم كل المظاهر الإيجابية لهذه العادة في يوم العيد، إلا أن العديد من العائلات لا تتقيد بها بسبب ظروف اقتصادية واجتماعية بحتة، أمام ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية ومصاريف رمضان وألبسة العيد التي أثقلت كاهل الأسر.