يَعرِف التراث الثقافي العالمي تطورًا وتوسعًا في أساليب التّأريخ لحضارات الشعوب عبر العالم، وإن كُنَّا قد ركزنا في الماضي على ترسيخ مراحل تاريخية مهمّة في الذاكرة الإنسانية من خلال الصروح والآثار المادية التي يخلفها تعاقب الحضارات، فإنّ تطور الزمن واتساع الرؤى قادنا إلى العمل على ضمّ التراث غير المادي الذي لا يقلّ أهميّة، والذي يُعدّ (حسب منظمة اليونيسكو التي تُعنَى بهذا النوع من التصنيفات)، كلّ أشكال التعبير الحيّة والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، "كالمآثر الشفهية، وفنون الأداء، والممارسات الاجتماعية، والطقوس، والمناسبات الاحتفالية، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، أو المعارف والمهارات المرتبطة بإنتاج الصناعات الحرفية التقليدية".
أقدم أواني تحضير الكسكس اكتشفت في الجزائر حسب البروفيسور الفرنسي المختص في التاريخ دوني ساياغ
من هذا المنطلق، تُعَدُّ "ثقافة الطعام" من بين الثروات غير المادية التي تمتلك قدرةً كبيرة على تجاوز الحدود والأعراف، ولا يكادُ يبلغ تأثيرها أيّ شكل آخر من أشكال الثقافة، حيث دأبت شعوب العالم عبر العصور على إخراج مطابخها نحو الآخر، لرسم ملامح الحضارة والتاريخ الذي مرّت به منذ وجودها فوق المعمورة، ولعلّ المُلفِتَ في الأمر هو تجاوز هذه الثقافة بتنوعها "مُفرطِ الغِنى" لكل الأسوار التي قد تضعها الخلافات والاختلافات الحضارية، الدينية والسياسية على حدٍّ سواء.
اقرأ/ي أيضًا: إرث مغاربي مشترك.. طبق الكسكسي على قائمة اليونسكو
وزارة الثقافة تحتفل
عمدت وزارة الثقافة الجزائرية إلى تنظيماحتفالية خاصّة بعد تصنيف منظمة "اليونسكو" لطبق الكسكس كتراثٍ ثقافي غير مادي، مشترك بين دول الجزائر، تونس، المغرب وموريتانيا على القائمة التمثيلية للتراث الثّقافي غير المادي للعنصر المتعلق بالمعارف والمهارات والممارسات المرتبطة بإنتاجه واستهلاكه، خلال أشغال الدورة الـ 15 للجنة الحكومية المشتركة لحماية التراث الثقافي غير المادي التابعة للمنظمة، والتي انعقدت استثناءً هذه السنة عبر تقنية التحاضر المرئي عن بُعد.
أشرفت وزيرة الثقافة مليكة بن دودة على هذه التظاهرة التي حملت شعار "طبق التلاقي"، وقد غرّدت في حسابها عبر تويتر عقب هذا التصنيف، أن الكسكس "نسق ثقافي وأسلوبٌ حياتي، إنه طقس متجذّر منذ قرون، في الأفراد والأقراح، في الاحترام والاحتفاء، في التضامن والدعم، وهو إشارة مبكّرة عن التنوع الذي آمنت به ساكنة المنطقة، بتعدده وتنوّعه".
يُذكر أيضًا أن هناك كتابات تاريخية تُرجح أصول الكسكس إلى الحقبة النوميدية، كما قيل أن أقدم أواني تحضير لهذا الطبق كانت قد اكتشفت في الجزائر حسب البروفيسور الفرنسي المختص في التاريخ دوني ساياغ.
من هنا، تعالت الأصوات واختلفت ردود الأفعال، تارة حول تخاذل الدولة ممثلة في وزارة ثقافتها في التنازل عن"حقها" في الإنفراد بهذا التصنيف، وتارة حول تصريحات الوزيرة التي خلت من ذكر التصنيف المشترك مع دول أخرى، وتارة أخرى حول تصريحها الذي استفز الكثيرين وخاصة النساء، حيث قالت أن "المرأة التي لا تحسن تحضير" فتل" الكسكس تمثل تهديدًا لعائلتها".
وبين الذين اشتكوا من بتر التصريح، وبين الذين انتقدوا الوزيرة على سوء انتقاء كلامها وعدم وضعه في سياقه الزمني الصحيح، يبقى الجدل الأكبر قائمًا حول أهمية النشاط الثقافي الذي يهتم بالسعي لحماية التراث غير المادي الممثل في هذا الطبق، والذي راح بعض المثقفين والمتابعين إلى اعتباره أقلّ أهميّة مما ينتظر الوزارة من تكفل بالوضع الثقافي والفني المزري، حيث أطلق بعض الفنانين نداء استغاثة إلى الوزيرة، وطالبوها بالاهتمام بوضعهم الذي زاد سوءًا مع استمرار أزمة كورونا.
ما أهميّة هذا التصنيف وما هي مكانة طبق الكسكس في التاريخ الإنساني والحياة الاجتماعية لدى الفرد الجزائري؟
الكسكس تراث مغاربي
يقول الناشط الثقافي عمار كساب في تصريح لـ "الترا جزائر"، أنه لا يختلف اثنان في القول بأنّ إدماج طبق الكسكس في قائمة التراث اللامادي للإنسانية هو حدث مهم، لأن هذا الفعل سيساهم كثيرًا بالتعريف أكثر بهذا الطبق عبر العالم، ليس كأكلة فقط وإنّما كأسلوب تعبيرٍ اجتماعي من خلال طريقة تحضيره التي تعتبر فنًا من الفنون المُتوارثة.
في السياق ذاته، لاحظ عمار كساب أن وزارة الثقافة الجزائرية قد استحوذت على الحدث وقدّمته على أساس أنه إنجاز وطني بحت، مع أن العارفين بالموضوع حسبه، يعلمون أن ملف التصنيف هذا، كانت قد قدمته أربع دول، وهي الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا، وعِوَض استغلال هذا الحدث لتقوية الشوفينية، كان على الوزارة أن تروّج لهذا التصنيف على أنه حدث مهمّ لتقوية أواصر المحبة والأخوة داخل المنطقة المغاربية، التي تحتاج، كما قال المتحدث، اليوم أكثر من الأمس، إلى التذكير الدائم بالعوامل الثقافية المشتركة للمنطقة، بما في ذلك طبق الكسكس
من ناحية أخرى، اعتبر كسّاب أنه من الجميل أن تجمع الدول المغاربية نجاحاتٍ كتلك المتعلقة بتصنيف تُراثٍ مشتركٍ داخل "اليونسكو"، وتمنّى أن تقوم دول المنطقة بمواصلة العمل لتقوية روابط الأخوة لأن ذلك حسبه، شيءٌ مهم في عالم أصبحت فيه التكتّلات الإقليمية ذات أهمية كبيرة، مضيفًا أنه من الواجب العمل على ما يجمعنا و ليس على ما يفرقنا، و ذلك هو دور الثقافة.
الكُسكس قصّة حياة
في حديث مُعمّق لـ "الترا جزائر"، يرى الباحث في الأنثروبولوجيا، إبراهيم بن عرفة، أن طرق التعامل مع الطَّعام تختلف من شعب إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، إذ أنها تعبر عن مختلف المنظورات الاجتماعية والثقافية، حيث "يعدّ الطعام أو المطبخ عمومًا جواز سفر وهويّة ثابتة لبعض البلدان على حساب أخرى، ومصدر إشكالٍ وتنافس لدى البعض الآخر".
يضيف محدثنا أن المطبخ الجزائري لم ينل حقّه من التصنيف والكتابة المعبّرة عن الهوية الثقافية، وقد شكّل - كما قال- ملف الكسكس كموروث ثقافي لامادي تحديًا كبيرًا على الصعيد المحلّي، وكذا على الصعيد الإقليمي إذ يتربّع طبق الكسكس في شمال أفريقيا كمنطقة جغرافية على عرش الأطباق الرئيسية الحاضرة في الأفراح والأحزان والمناسبات المختلفة، يعبر"الطّْعام" حسب بن عرفة، عن قصة حياة ووجود ويمثل كيانات وحضارات مختلفة مرّت على هذه الرقعة الجغرافية.
الكسكس والعلالقاتالاجتماعية
اعتبر إبراهيم بن عرفة أن طبق الكسكس، هو أكبر تعبير عن الهوية الأنثوية وقوتها، حيث اكتسبت نساء الجزائر قوتهن بحكم التقاليد وقوة القانون الداخلي للأسرة (العادات والموروث) ومارسن عملهن بكفاءة من خلال إعداد الطعام(الكسكس) وتقديمه في وقت يتمسّك المجتمع بمعتقدات وممارسات حول تناول الطعام والجوع وعلو قدر الرجال في الأكل والعادات التي تفرض عليهن التحكم في أنفسهن أمامه مقابل السماح للرجال بالانغماس في اللذات.
أكد المتحدّث دور طبق الكسكس كوسيط للتبادل والارتباط والتميز بين الرجال والنساء، فهن حارسات البوابة المقدّسة الممثلة في الإطعام، وهنّ مفتاح الخزانة الأسطورية وصمام الأمان لأنهن من يكفلن المخزون الغذائي العائلي كعادة متوارثة منذ القِدم، المخزون المسمّى بالعولة، ويؤكّد الباحث تمتع نظام العولة بمنهجية دقيقة تتقيد بها ربات البيوت في المناطق شبه الحضرية والقروية الريفية، حيث ترتسم لنا حلة من الألوان فوق السطوح وعند مداخل المساكن من مختلف الأطعمة المعدّة للتجفيف والتخزين، والتي يطغى عليها اللون الأبيض، لون العيش كما يسمّى عند الشاوية والطعام في وسط البلاد، والسكسو لدى القبائل، وفي الشرق ومناطق الصحراء يسمّى البربوشة، والكسكس كتسمية متعارف عليها منذ القدم في المنطقة، إذ تسهر على إعداده حسبه، نساء البيت أو العائلة الممتدّة فيما يسمى بـ "التويزة" التي تبدأ منذ اللحظات الأولى لحصاد محصول القمح وغسله، تجفيفه، طحنه ومن ثم تحويله للفتل وإنتاجه في صورته النهائية المعدة للتقديم.
الكسكس والمقدّس
في هذا الموضوع، يُسهب الباحث بن عرفة في التوغل في قلب رمزية هذا الطبق، إذ يشير إلى حضوره المقدّس يوم الجمعة، حيث يُعدّ من منظور الأنثروبولوجيا رمز المشاركة في النجاحات والانتصارات، في الأحزان والأقراح، كما يرمز إلى البقاء على قيد الحياة مثلما يؤكّده (فرويد. 1918. ص 174)، ويؤكد ذلك أيضًا مارسيل موس، حيث أن الطعام، حسب بن عرفة، دليل على القرابة والثقة والصداقة. وعلامة على الحميمية في بعض الثقافات، على حدّ قوله.
يُشير المتحدث هنا، إلى شهرة صفة إكرام الضيف عند الجزائريين وتبادل الطبق في المناسبات الدينية، وعن ذلك يقول (gallini) الذي كتب كثيرًا عن الطعام والعلاقات الاجتماعية : "إذا أردت للحب أن يدوم اجعل طبقًا يرجع مقابل الذي يأتي". وهو ما يؤكده مووس (mauss) في كتاب الهدية التي تجعل الناس في حالة دين لبعضهم كما تجعلهم منشغلين بتبادل الأشياء الإيجابية.
يشكّل الكسكس إذن رمزية مقدسّة، إذ يمثل القمح بسنابله الملئى مكانة الذكور وفحولتهم، ويشكّل كمادة نهائية معادة الانتاج بعد عدة عمليات، خصوبة المرأة وقدرتها على فرض هويتها، وتمكنها من مسايرة الظروف والتغيرات التي يمكنها أن تحصل.
هذا التصنيف الإنساني المشترك قد يفتح أبوابًا أغلقتها الخلافات والاختلافات التاريخية والحضارية
يمكن الجزم إذن، سواءً في الجزائر أو في الدول التي شملها التصنيف، وحتى في بعض الدول المتوسطية والعربية، كجزيرة صقلية في إيطاليا المعروفة بكسكس السمك الشهير، وفلسطين بطبق المفتول، أن هذا الطبق التاريخي العابر للحدود من الثروات التي يصعب أن تتلاشى مع الزمن، فهو طبق لمُقاسمة الزاد ومشاطرة الفرح والحزن على حدٍّ سواء، ولعل هذا التصنيف الإنساني المشترك قد يفتح أبوابًا أغلقتها الخلافات والاختلافات التاريخية والحضارية، بعيدًا عن حقيقة أن القضايا الكبيرة يلزمها التزامٌ شديد وجرأة واعتراف، وهذا لا يفسد مودّة بين الأشقاء.
اقرأ/ي أيضًا:
"أماڨار نتفسوث".. تراتيل الربيع في منطقة القبائل
"أزرو نطهور" في منطقة القبائل.. البركة التي تسكن الجبل منذ قرون